تشهد الهند نمواً اقتصادياً متسارعاً، حيث تصعد سلم القوى الاقتصادية العالمية، ومع ذلك، يثير هذا النمو تساؤلات حول التوزيع العادل للثروة، إذ تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل ملحوظ. فبينما يزداد عدد المليارديرات في الهند، يعيش الملايين في فقر مدقع، مما يطرح تساؤلات فما إذا كانت الهند قادرة على تحقيق طموحها في أن تصبح قوة اقتصادية عظمى مع استمرار اتساع الفجوة في الثروة؟
ارتفع عدد أصحاب الثروات الفائقة في الهند – أولئك الذين يمتلكون 30 مليون دولار على الأقل – إلى 13،263 شخصاً في عام 2023، بزيادة قدرها 6.1 بالمئة عن العام السابق، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بنسبة 50.1 بالمئة بين عامي 2023 و2028، مما يجعله أسرع معدل نمو لأصحاب الثروات الفائقة في العالم، وفقاً لبيانات من (نايت فرانك).
ويقود هؤلاء الأشخاص التقدم الاقتصادي في الهند من خلال أنماط استهلاكهم وسلوكيات استثمارهم، ومع ذلك، فإن وراء هذا الازدهار والآمال الكبيرة، تلوح في الأفق مشكلة خطيرة تتمثل في اتساع الفجوة الاقتصادية، وتزايد التفاوت في الثروة، بحسب تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” الأميركية واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وكشفت دراسة أجراها مختبر عدم المساواة العالمي (WLI) أن أعلى 1بالمئة من أصحاب الدخل في الهند استحوذوا على 22.6 بالمئة من إجمالي الدخل المتولد في البلاد بين عامي 2022 و2023. وتعد هذه النسبة واحدة من أعلى المعدلات في العالم، متجاوزة مستويات الولايات المتحدة والأسواق الناشئة مثل البرازيل وجنوب إفريقيا، حيث تأتي فجوة الدخل في الهند (وهي الفرق في الأجور المكتسبة بين التركيبة السكانية المختلفة) جنباً إلى جنب مع تفاقم فجوة الثروة أيضاً.
وأظهرت نفس دراسة WLI أن أعلى 1بالمئة من أصحاب الثروات في الهند يسيطرون على 40.1 بالمئة من ثروة الأمة بين عامي 2022 و2023. وهذه قفزة كبيرة من نسبة 12.9بالمئة التي احتفظوا بها في عام 1961 عندما بدأ الباحثون تحليلهم.
ونقلت الشبكة الأميركية عن سوميدا داسجوبتا، من وحدة الاستخبارات الاقتصادية (EIU)، بأن “ارتفاع عدم المساواة في الدخل والثروة في الهند ليس نتيجة لفقر الفقراء بدلاً من ذلك، تأتي هذه الظاهرة في الوقت الذي يزداد فيه الأثرياء ثراءً بمعدل أسرع، لدى الهند أكثر من 300 ملياردير، وهو أمر لا يمكنك اعتباره ممكناً بالنسبة لاقتصاد ناشئ، مع معدل نمو قوي، ولكن أيضاً سجل حافل من عدد كبير جداً من الفقراء. لذا فقد أدى هذا إلى تفاقم الانقسام بين الأغنياء والفقراء”.
3 مجموعات أسرية
إن القضية الأكثر إلحاحاً الناجمة عن فجوة الثروة والدخل في الهند هي ظهور فئات مختلفة من الأسر ذات مستويات المعيشة المتميزة، وتصنف شركة رأس المال الاستثماري “بلوم فينتشرز” الأسر الهندية إلى ثلاث مجموعات بناءً على دخل الفرد.
المجموعة الأولى، أو الهند 1، كما تسميها الشركة، تضم “الطبقة المستهلكة”. حوالي 30 مليون أسرة، أو 120 مليون فرد، لديهم الدخل المتاح للاستثمار وشراء السلع والخدمات بما يتجاوز الضروريات يندرجون تحت هذه الفئة. وهم يمثلون 800 مليار دولار أو 60٪ من إجمالي استهلاك الهند.
المجموعة الثانية، أو الهند 2، تتكون من حوالي 70 مليون أسرة ذات دخل أقل نسبياً من “طبقة الطامحين” وهم “مستهلكون بكثافة ودافعون مترددون”، كما ذكرت “بلوم فينتشرز” في تقريرها السنوي، والأفراد في هذه المجموعة يشملون المساعدين وحراس الأمن.
المجموعة الأخيرة، أو الهند 3، تضم أولئك الذين ليس لديهم “الدخل الكافي لإنفاق أي شيء على السلع التقديرية”، كما لاحظت شركة رأس المال الاستثماري وينتمي حوالي 205 مليون أسرة أو مليار شخص إلى هذه المجموعة.
نمو اقتصادي متسارع
ويسير الاقتصاد الهندي في طريق النمو منذ سنوات ليحل في المركز الخامس كأكبر اقتصاد في العالم، لا يسبقه سوى أميركا والصين وألمانيا واليابان، بعد أن تمكن خلال السنوات القليلة الماضية من تجاوز الاقتصادين الفرنسي والبريطاني.
وسيتجاوز الاقتصاد الهندي حاجز الـ 4 تريليونات دولار للمرة الأولى خلال العام الجاري 2024، ليستمر بالنمو ليتجاوز كل من الاقتصادين الياباني والألماني قبل حلول 2030 ليصل بذلك إلى المركز الثالث، وفق تقديرات وتوقعات مؤسسات دولية ومنها صندوق النقد الدولي.
وبحسب تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر يناير الماضي، توقع تقرير صندوق النقد الدولي أن يظل النمو في الهند قوياً ويبلغ 6.5 بالمئة في 2024 و2025، ليرفع بذلك توقعاته لنمو خامس اقتصاد في العالم بنقطتين مئويتين، للعامين وذلك انعكاسا لصلابة الطلب المحلي، وتشير بيانات الصندوق إلى أن النمو سيصل بالاقتصاد الهندي إلى حدود الـ 6 تريليون دولار في 2028.
7 أسباب للتفاوت المتزايد في الثروة
وفي حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أعادنا الدكتور نضال الشعار الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY” إلى جذور وأسباب هذا التفاوت المتزايد في الثروة في الهند مشيراً في هذا السياق إلى سبعة أسباب هي:
- السياسات الحكومية القاصرة لجهة عدم تأمين البنية التحتية اللازمة لجميع أنحاد البلاد.
- انخفاض الأجور المزمن وعدم معالجته.
- التغيير في تكنولوجيا الإنتاج والصناعة وضعف القدرة على انتشار التكنولوجيا الحديثة واقتصارها على طبقة الأغنياء.
- عدم ظهور الطبقة الوسطى وهي الحامل الأساسي للاقتصاد وعدالة توزيع الدخل.
- عدم وجود نقابات مهنية تدافع عن حقوق العمال والمزارعين وإن جدت هذه النقابات فهي تحابي طبقة الأغنياء التي تستفيد بالضرورة من العمالة الرخيصة.
- تحول الحكومة إلى حكومة مركزية مما أدى إلى إهمال مصالح الأفراد عبر البلاد والتركيز على مصالح الشركات وقصور الاستثمار الحكومي بحيث يشمل كافة فئات المجتمع.
- التفريق الاجتماعي التاريخي والتنافس على موارد محدودة ضمن جغرافية واسعة جداً.
وأوضح الدكتور الشعار أن الهند يمكن أن تخرج من هذه المحنة من خلال توسيع الاستثمار الحكومي جغرافياً واجتماعياً وطبقياً وعرقياً والتركيز على منح الطبقة العاملة مزايا ضريبية وصحية وثقافية ومهنية وتحقيق عدالة ضريبية من خلال فرض الضرائب على الأثرياء تكراراً لتجربة الضريبة الإضافية التي فرضتها الحكومة على الأثرياء عام 2022 والتي كانت بمقدار 2 بالمئة، لما حققته من زيادة في الدخل القومي وصلت إلى 0.5 بالمئة.
إيجاد طبقة وسطى يٌمكّن من تحقيق النمو وتجنب المشكلات الاجتماعية
وأكد الخبير الاقتصادي أن تكرار هذه التجربة بمعدلات أكبر سوف يوفر للحكومة القدرة على القيام باستثمارات أوسع وتقليص الفجوة ما بين الطبقة الفقيرة والطبقة الغنية وإيجاد طبقة وسطى قادرة على تحقيق النمو الاقتصادي المنشود وتجنب المشكلات الاجتماعية وحتى السياسية التي قد تنشأ بسبب هذا التفاوت ذلك أن التاريخ مليء بأحداث كارثية كانت ناتجة عن فقدان العدالة في توزيع الدخل والثروة.
ورداً على سؤال فيما إذا كانت الهند قادرة على أن تصبح قوة اقتصادية عظمى مع وجود فجوة شاسعة في الثروة أجاب كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” الدكتور الشعار: “نعم، يمكن أن تصبح قوة اقتصادية عظمى، بل ويُتوقع للهند أن تكون الاقتصاد الثالث في العالم لكن سيكون ذلك فقط بالحجم والكم وليس بالنوع لأن مثل هذه الفجوة في الثروة لا بد لها مع أن الزمن أن تفعل فعلها في إحداث خلل هيكلي في الاقتصاد وفي معدلات نموه وفي النسيج الاجتماع للبلد وقد انهارت اقتصادات بسبب هذه الفجوة على مدى التاريخ الحديث والقديم”.
63 مليون هندي يدخلون دائرة الفقر سنوياً
من جهته، قال الخبير الاقتصادي، الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “غالباً ما تترافق معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة مع تراجع في مستويات العدالة في توزيع الثروة. وفقاً لتقرير “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” (UNDP) حول التنمية البشرية، تتضح هذه الظاهرة في العديد من البلدان النامية، حيث تتركز الثروة في يد قلة من الأفراد بينما يعاني غالبية السكان من الفقر. في حالة الهند، استحوذ أعلى 1بالمئة من السكان على 22.6 بالمئة من إجمالي الدخل بين عامي 2022 و2023، مما يعكس مستوى غير مقبول من التفاوت”.
وعلى الرغم من أن الهند حققت نمواً اقتصادياً ملحوظاً، حيث أصبحت واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، إلا أن هذا النمو لم ينعكس بشكل متساوٍ على جميع فئات المجتمع. فعلى سبيل المثال، يُظهر تقرير “Oxfam” أن 63 مليون هندي يدخلون دائرة الفقر سنوياً بسبب تكاليف الرعاية الصحية، مما يشير إلى أن الفقراء لا يتلقون الفوائد الكافية من النمو الاقتصادي، بحسب تعبيره.
حلول ممكنة
وأوضح الدكتور المصبح أن وصول الهند لمرتبة القوة الاقتصادية العظمى مع وجود الفجوة الكبيرة في الثروة يعتمد على كيفية معالجة هذه الفجوة. وأضاف: “التاريخ يُظهر أن الدول التي نجحت في النمو الاقتصادي المستدام هي تلك التي تمكنت من تحقيق توزيع أكثر عدلاً للثروة. على سبيل المثال، كانت دول مثل السويد والنرويج قادرتين على تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي وعدالة التوزيع، مما أدى إلى مستويات مرتفعة من الرفاهية الاجتماعية وجودة الحياة، لذا، إذا أرادت الهند أن تصبح قوة اقتصادية عظمى، يجب عليها التركيز على سياسات تعزز العدالة في توزيع الثروة. يشمل ذلك زيادة الضرائب على الأثرياء وتوجيه العائدات نحو تحسين التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية”.
علاوة على ذلك، ينبغي على الهند أن تستثمر في برامج دعم الفئات الأكثر ضعفاً مثل النساء والأقليات، وتوفير فرص عمل أفضل لهم. إذ تشير الدراسات إلى أن زيادة مشاركة النساء في قوة العمل يمكن أن تعزز النمو الاقتصادي بشكل كبير، طبقاً لما قاله أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي الدكتور المصبح.