كانت الجرعات الثقيلة من الرافعة المالية، أو الأموال المقترضة، شائعة بين جميع الصفقات، والتي استخدمها المستثمرون لتضخيم المكاسب المتوقعة.
ومع ارتفاع الأسواق خلال النصف الأول من العام 2024، حققت الاستثمارات أرباحاً غير متوقعة، مما ألهم مزيداً من المتداولين للانضمام إلى الركب ودفع الأسعار إلى الارتفاع.
بينما الآن تحول المشهد، فقد عادت الاضطرابات إلى الأسواق العالمية على مدار الشهر الماضي، والآن يتراجع المستثمرون عن هذه الصفقات التي كانت لا يمكن إيقافها ذات يوم، وفق تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” اطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”.
في حين هدأت السوق في الأيام الأخيرة وظل مؤشر داو جونز الصناعي ضمن 5 بالمئة من أعلى مستوياته القياسية، يحذر المتداولون من وجود سبب للاستعداد لمزيد من الاضطرابات.
ما وراء الاضطرابات؟
التقرير نقل عن الرئيس التنفيذي لشركة دامبد سبرينج أدفايزرز (شركة استشارية لصناديق التحوط الكبرى)، آندي كونستان، قوله: إن الخسائر الأخيرة كانت ناجمة إلى حد كبير عن “تقليص الرافعة المالية”.
وأفاد التقرير بأن التغيرات في الظروف الاقتصادية أو المالية يمكن أن تجبر المستثمرين على بيع جزء من محافظهم، مثل حيازات الأسهم الأميركية أو اليابانية؛ وذلك للتعامل مع الخسائر من جزء آخر، مثل الرهانات بالرافعة المالية على الين الضعيف.
ومن شأن تلك العملية الفوضوية للحد من المخاطر أن تستغرق وقتاً قبل أن يتمكن المتداولون من إعادة الأمور إلى نصابها.
وبحسب كونستان، فإنه “يجب أن يتعامل تقليص الرافعة المالية أولاً مع الأشخاص الذين لديهم رهانات طويلة ويتم استدعاؤهم لتقديم ضمانات قبل أن يتم تدويرها إلى رهانات طويلة جديدة، وإلى مزيد من الرافعة المالية.”
وكان شهر يوليو كان أحد أكبر حلقات تقليص الرافعة المالية بالنسبة لعملاء صناديق التحوط في شركة الوساطة الرئيسية غولدمان ساكس في السنوات العشر الماضية.
كساد الصيف
ويشير تقرير الصحيفة إلى أنه:
- ربما جاءت عمليات تقليص الرافعة المالية تلك في أسوأ وقت للأسواق – في منتصف أشهر الصيف حيث يقضي عديد من المتداولين والمستثمرين إجازاتهم.
- وفي حين تتم أتمتة التداول أكثر من أي وقت مضى، فإن القرارات التي يتخذها الأفراد لا تزال مهمة.
- إن وجود عدد أقل من المحترفين في مؤسسات العمل يعني نقصاً في الأفراد ذوي الخبرة على مكاتب التداول، وعدد أقل من المستثمرين الذين يمكنهم التدخل للشراء مع انخفاض الأسعار.
- وهذا هو السبب وراء أن شهر أغسطس شهد أمثلة على الذعر في الماضي، مثل انهيار صندوق التحوط Lono-no-no-no-no-ng-Term Capital Management في أغسطس 1998.
خلال اضطرابات الأسبوع الماضي، قال رئيس إقراض العملات المشفرة في ترايدنت ديجيتال باتريك هاوسر: “كانت السيولة أسوأ أو مساوية لما كانت عليه أثناء انهيار السوق إبان كوفيد”.
ووفق التقرير، فمن الصعب تحديد الأسباب الدقيقة لانهيارات السوق، ومن المرجح أن تكون التفسيرات الدقيقة كثيرة. بينما من المؤكد أن الأدلة على تباطؤ الاقتصاد الأميركي أسهمت في التقلبات.
ومع ذلك، يمكن أن يُعزى قدر كبير من الصدمة التي يشعر بها المستثمرون من سوق هبطت بسرعة كبيرة، ثم عادت فجأة، إلى اندفاع المستثمرين للتراجع عن الرافعة المالية بسرعة، إما من تلقاء أنفسهم أو بعد تلقي مكالمات من السماسرة.
المراهنة الكبيرة على اليابان
وإلى ذلك، يشير التقرير إلى أنه
- عندما تتحول الرهانات عالية الرافعة المالية في الاتجاه الخطأ، يمكن أن تحدث انعكاسات حادة.
- يتطلب السماسرة المزيد من الضمانات التي يجب تقديمها مقابل الأموال المقترضة، ويمكن أن تصبح صناديق التحوط بائعين مجبرين على خفض المخاطر وتلبية هذه المتطلبات.
- في يوليو وصلت الرهانات الصافية ضد الين من قبل صناديق التحوط والمضاربين الآخرين الذين يعتمدون عادة على الرافعة المالية إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2017، وفقاً للجنة تداول العقود الآجلة للسلع.
- كانت الصناديق التي تراهن على الاقتصاد الكلي وغيرها تبيع الين على المكشوف أو تستغل أسعار الفائدة القياسية القريبة من الصفر في اليابان لاقتراض العملة وبيعها واستثمار العائدات في مكان آخر. ويطلق المحترفون على هذه التجارة اسم “تجارة الين”.
قام البعض بمبادلة الين بالدولار، على سبيل المثال، لشراء سندات الخزانة ذات العائد الأعلى.
وفي ذروة شهر يوليو بلغت قيمة الرهانات القصيرة لصناديق التحوط والمضاربين الآخرين على الين 14 مليار دولار أميركي، وفقاً لهيئة تداول العقود الآجلة للسلع.
ويضيف التقرير: هناك علامة أخرى على تراكم الرافعة المالية؛ فقد بلغ الإقراض الأجنبي للبنوك اليابانية تريليون دولار في مارس، وفقاً لتحليل ING لبيانات بنك التسويات الدولية، وهي زيادة بنسبة 21 بالمئة منذ العام 2021.
- تفككت التجارة على مدار الشهر الماضي مع تضييق الفجوة بين عائدات السندات الحكومية الأميركية واليابانية قبل تخفيضات أسعار الفائدة المتوقعة في الولايات المتحدة.
- وتعرضت لضغوط جديدة عندما رفع بنك اليابان أسعار الفائدة، مما أدى إلى ارتفاع الين وإجبار هؤلاء المتداولين على التخلص من رهاناتهم ذات الرافعة المالية.
- وبحلول يوم الثلاثاء الماضي، وهو اليوم التالي للانهيار الأخير للسوق، انخفضت هذه الرهانات ضد الين بأكثر من 80 بالمئة من الذروة، إلى مركز قصير صافٍ أكثر تواضعاً.
وكتب كبير الاستراتيجيين في شركة إنتراكتيف بروكرز، ستيف سوسنيك، للعملاء الأسبوع الماضي: “هناك مستثمرون ذو رافعة مالية يتعرضون للانفجار لأنهم استدانوا كميات هائلة من الين منخفض العائد لشراء كل شيء آخر”، في إشارة لحجم الضغوطات التي يواجهونها.
تدهور التكنولوجيا
تحولت الصفقات الأخرى التي كانت شائعة ذات الرافعة المالية إلى مصدر للألم. ولأكثر من عام، كانت صناديق التحوط وصناديق الكمية المدفوعة بواسطة الحاسوب وغيرهم يتكدسون في أسهم التكنولوجيا الأميركية الكبيرة باستخدام الأموال المقترضة، غالبًا بينما كانوا يراهنون ضد الأسهم الصغيرة، وفقًا للمستثمرين والمحللين.
انقلبت التجارة رأساً على عقب في يوليو، وذلك بفضل الأرباح الباهتة التي أضرت بأسهم التكنولوجيا وأطلقت العنان لارتفاع طال انتظاره في أسهم الشركات ذات القيمة السوقية الصغيرة، ويرجع ذلك جزئياً إلى التوقعات بأنها ستستفيد من انخفاض تكاليف الاقتراض. على مدار الشهر الماضي، انخفضت أسهم الشركات المفضلة لدى المستثمرين منذ فترة طويلة مثل تسلا وأمازون وإنفيديا بنسبة 15 بالمئة أو أكثر.
العملات المشفرة
وفي سوق العملات المشفرة، شهدت الأيام الخمسة الأولى من هذا الشهر أكثر من 3 مليارات دولار من “التصفية القسرية”، أو المبيعات غير الطوعية للمراكز من قبل المتداولين الذين يعتمدون على الأموال المقترضة، بعد أن أثبتت حسابات الهامش الخاصة بهم عدم كفايتها للتعامل مع الخسائر الأخيرة، وفقًا لشركة البيانات CoinGlass ، وانخفضت أسعار البيتكوين بأكثر من 18 بالمئة خلال تلك الأيام الخمسة، بينما انخفضت الإيثريوم بنسبة 24 بالمئة.
أمضى مستثمرو العملات المشفرة معظم الفترة منذ انهيار بورصة FTX في أواخر العام 2022 في تقليص رافعتهم المالية. انتهى ذلك هذا العام.
وقد عزز إطلاق صناديق التداول الأميركية التي تحمل عملتي البيتكوين والإيثريوم، وهما أكبر عملتين مشفرتين، تفاؤل المستثمرين بارتفاع أسعار الرموز الرئيسية.
وعبر الكثيرون عن وجهة نظر صعودية من خلال شراء منتجات مشتقات البيتكوين التي يقول المستثمرون إنها تتمتع “برافعة مالية جوهرية”، مما يعني أنه من خلال وضع القليل من المال، يمكن للمستثمرين تحقيق مكاسب كبيرة. وتشمل هذه الخيارات وما يسمى بالعقود الآجلة الدائمة، وهي عقود آجلة بدون تاريخ انتهاء صلاحية تسمح للمتداولين بالمراهنة على سعر الرمز بشكل مستمر مع ما يصل إلى 100 ضعف الرافعة المالية.
وصل المبلغ الإجمالي لعقود مشتقات البيتكوين المعلقة على البورصات المركزية إلى 37 مليار دولار في بداية أغسطس، وهو ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل عام، وفقًا لشركة CCData . وأدت الفوضى في السوق في 5 أغسطس إلى خفض هذا المجموع إلى 28 مليار دولار.
ويختتم التقرير بالإشارة إلى أن:
- المحترفين يستعدون لمزيد من التقلبات، ذلك أنهم يحيطون بتقرير التوظيف لشهر أغسطس، المقرر إصداره في 6 سبتمبر، على تقويماتهم.
- خيبة الأمل الثانية على التوالي قد تؤكد أسوأ مخاوف المتشككين في الاقتصاد، مما قد يؤدي إلى جولة جديدة من تقليص الرافعة المالية. وقد يُظهِر تقرير قوي أن تقرير يوليو كان تباطؤًا لمرة واحدة، تأثر بالأعاصير.
كيف يفكر المستثمرون الآن؟
من جانبه، قال الباحث في الشؤون الاقتصادية مازن أرشيد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الاضطرابات في الأسواق المالية لها تأثير كبير على سلوكيات واتجاهات المستثمرين؛ إذ تؤدي إلى تغييرات في الاستراتيجيات المتبعة من قبل هؤلاء المستثمرين، وغالباً ما تدفعهم إلى إعادة تقييم محفظتهم المالية.
- عندما تحدث اضطرابات في الأسواق، سواء كانت نتيجة تقلبات اقتصادية أو جيوسياسية أو تغيرات في السياسة النقدية، يواجه المستثمرون مخاطر أكبر مما يدفعهم إلى اتخاذ قرارات سريعة للتقليل من الخسائر المحتملة.
- على سبيل المثال، الاضطرابات الأخيرة في السوق العالمية نتيجة لرفع الفائدة بشكل متكرر من قبل الفيدرالي الأميركي لمحاربة التضخم المرتفع أدت إلى تقلبات كبيرة في أسواق الأسهم الأميركية.. هذا الأمر دفع عديداً من المستثمرين إلى بيع أجزاء من محفظتهم، مثل أسهم التكنولوجيا التي كانت تحقق أرباحاً عالية سابقاً، ولكن أصبحت معرضة للخطر بسبب الارتفاع في تكلفة الاقتراض.
وتابع: هذا السلوك يمكن ملاحظته من خلال انخفاض مؤشر ناسداك في العام 2022، مما يعكس رغبة المستثمرين في تقليل تعرضهم لهذه الأصول الأكثر خطورة، علاوة على ذلك قد يضطر المستثمرون أحياناً إلى بيع أصول معينة للتعامل مع خسائرهم في أجزاء أخرى من محفظتهم.
وبين أن الرهانات ذات الرافعة المالية على الين الياباني الضعيف أصبحت شائعة بين المستثمرين العالميين خلال السنوات الماضية، حيث استفادوا من الفروقات الكبيرة في أسعار الفائدة بين اليابان والدول الأخرى، ولكن مع تدخل بنك اليابان المفاجئ لرفع أسعار الفائدة في أواخر 2023 تعرضت هذه الرهانات لخسائر كبيرة.
في هذا السياق لجأ بعض المستثمرين إلى بيع الأسهم الأميركية أو اليابانية لتعويض هذه الخسائر، وبهذا قللوا من تعرضهم لهذه المراكز ذات المخاطر العالية، وفق الباحث في الشؤون الاقتصادية.
أسهم التكنولوجيا
وفي حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، قال الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة ACY ، الدكتور نضال الشعار:
- قبل 6 أشهر عندما رأينا تسارع اتجاه أغلب المستثمرين إلى أسهم شركات التكنولوجيا؛ بسبب الذكاء الاصطناعي التوليدي.
- الفترة التي تلتها وجدنا نزوحاً عن تلك الشركات والاتجاه إلى أخرى عامة مثل شركات البترول والأغذية والتجزئة.
- تبديل المحفظة الاستثمارية والتنويع فيها أمر دائماً متواجد في الأسواق ولكنه اتخذ شكلاً آخر وبحدة أقوى عندما بدأت معدلات التضخم بالانخفاض وبدأت سوق العمل بالانخفاض.
- رأينا أيضاً الاتجاه نحو الشركات الصغيرة وكان هناك ارتفاع كبير في مؤشر راسل 2000 خلال الشهرين الماضيين بسبب توقعات انخفاض أسعار الفائدة، وهو أمر يصب في مصلحة الشركات الصغيرة، إذ يعني كلفة اقتراض أقل وبالتالي التوسع في مشاريع جديدة وتوفير التمويل للاختراعات والبحوث.
وأضاف: الأسبوع الماضي شهد عملية المناقلة بين الين الياباني والعملات الدولية الأخرى استفادةً من معدل الفائدة المنخفض على الين الياباني، أي أن المستثمر يقوم باقتراض الين الياباني بسعر فائدة رخيص وتحويله إلى استثمارات أخرى فيها ريع أكبر من الريع الذي من الممكن أن يحصل عليه في اليابان، بحسب “الشعار”.
وشدد على أن “هذا الأمر شاهدناه في انخفاض حاد جداً بشكل خاص الأسبوع قبل الماضي لأنه كان هناك احتمال -بسبب تصريحات المركزي الياباني- برفع أسعار الفائدة والسير نحو سياسة انكماشية وليس توسعية كما حصل خلال الـ35 سنة السابقة”.
وأوضح أن عملية التبديل في المحافظ الاستثمارية دائمة ومستمرة ولكن ما نراه حالياً من عمليات تبديل استثمارية تنذر بأن هناك خوفاً وحذراً كبيراً في السوق والاتجاه نحو أسهم شركات واستثمارات وأدوات استثمارية قد تكون أكثر استقراراً ومناعةً حال حدوث ركود اقتصادي بشكل خاص، لذا الخوف من الركود التضخمي الذي فيه تباطؤ في النمو الاقتصادي وارتفاعات في معدلات التضخم أي المستوى العام للأسعار، الذي ما زال قرابة 3 بالمئة وهو أعلى من المعدل المستهدف من قبل كل المصارف المركزية في كل الدول الغربية.