شهدت الأسواق العالمية أخيراً موجات بيع متزامنة عنيفة، أسفرت عن خسائر حادة طالت القطاعات كافة تقريباً، وذلك بعد صدور تقرير الوظائف الضعيف يوم الجمعة الماضي في الولايات المتحدة عن شهر يوليو، والذي أثار مخاوف جديّة بشأن احتمالات دخول الاقتصاد في حالة من الركود، ما شجّع موجة من التراجعات الحادة في الأسواق المالية.
أظهر تقرير الوظائف الذي نشرته وزارة العمل الأميركية أن النمو في عدد الوظائف كان أضعف من التوقعات، مما أثار قلق المستثمرين حيال قوة الاقتصاد الأميركي وقدرته على الاستمرار في نموه الحالي.
التقرير جاء في وقت حساس، حيث كان المستثمرون يترقبون أي إشارات قد توحي بقدرة الاقتصاد على تحمل الضغوطات الاقتصادية والمالية في ظل الأزمات العالمية المتعددة.
- تقرير الوظائف المخيب للآمال أظهر أن أصحاب الأعمال أضافوا 114 ألف وظيفة في يوليو، أي أقل من التوقعات التي كانت عند 175 ألف وظيفة.
- كما ارتفع معدل البطالة إلى 4.3 بالمئة بما يفوق توقعات الاقتصاديين بأن يظل هذا المعدل دون تغيير خلال الشهر عند 4.1 بالمئة.
اليابان.. الصدمة الافتتاحية
السوق اليابانية أخذت الصدمة مبكراً منذ الثواني الأولى من افتتاح تعاملات الاثنين 5 أغسطس، وقد سجل المؤشر نيكي تراجعاً يومياً غير مسبوق منذ ما يعرف بـ “الاثنين الأسود” في العام 1987.
فقد المؤشر نيكي 12.4 بالمئة بعد أن فاقمت بيانات الوظائف الأميركية يوم الجمعة المخاوف من ركود محتمل، ومع ارتفاع الين إلى أعلى مستوياته في سبعة أشهر مقابل الدولار. مما يعكس مدى عمق الصدمة التي تعرضت لها الأسواق اليابانية.
هذا التراجع الحاد يعكس القلق من الأثر العالمي للبيانات الأميركية، حيث تعتبر اليابان من أكبر اقتصادات العالم المرتبطة بشكل وثيق بالاقتصاد الأميركي.
وتفاقمت عمليات البيع العالمية بسبب تصفية ما يسمى بتجارة الفائدة على الين، حيث استغل المتداولون أسعار الفائدة المنخفضة في اليابان للاقتراض بالين وشراء الأصول المحفوفة بالمخاطر.
لم تكن الأسواق الأوروبية بمنأى عن هذه الضغوطات، حيث سجلت المؤشرات الأوروبية انخفاضات ملحوظة تجاوزت 2 بالمئة بالنسبة للمؤشر العام “ستوكس 600” والذي أغلق عند مستوى 487.05 نقطة. كما تراجع مؤشر داكس الألماني بنسبة 1.82 بالمئة منهياً تعاملات الاثنين عند مستوى 17339 نقطة، كذلك تهاوى مؤشر كاك الفرنسي بنسبة 1.42 بالمئة مغلقاً عند مستوى 7148 نقطة، كذلك مؤشر فوتسي البريطاني والذي سجل تراجعاً بنحو 2.04 بالمئة منهياً تعاملات أول جلسة في الأسبوع عند مستوى 8008 نقطة.
تأثرت الأسواق الأوروبية بشدة جراء المخاوف من حدوث ركود اقتصادي أميركي، وهو ما انعكس في تراجع أسهم الشركات الكبرى، خاصة تلك الأكثر تعرضاً للأسواق الأميركية بشكل كبير.
ويخشى المحللون أن تؤدي أي علامات أخرى على الهشاشة في الاقتصادات الكبرى إلى تقلبات جديدة. فقد دفع التباطؤ في ألمانيا الشهر الماضي المحللين إلى التحذير من الركود، في حين أدى رفع أسعار الفائدة من جانب البنك المركزي الياباني إلى هبوط أسهم مؤشر نيكي بنحو 2216 نقطة، أو ما يقرب من 6%، يوم الجمعة.
وول ستريت تحت الضغط
وفي وول ستريت، خسر مؤشر داو جونز الصناعي أكثر من ألف نقطة تقريباً، كما تهاوى مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 3 بالمئة، ليسجل أسوأ أداء يومي منذ العام 2022، وأدنى مستوى في ثلاثة أشهر. كما تراجع مؤشر ناسداك بنسبة 3.43 بالمئة.
وبحسب تعبير رئيس الاستثمارات في شركة جنرالي لإدارة الأصول، أنطونيو كافاريرو، في صحيفة “فاينانشال تايمز”، فإن السوق انتقلت فجأة “من يوم صيفي دافئ إلى الخريف مباشرة”.
وكانت وول ستريت خلال التعاملات، قد قلصت بعض خسائرها الثقيلة بعد أن جاءت بيانات قطاع الخدمات الأميركي الصادرة عن معهد إدارة التوريدات أعلى قليلا من التوقعات.
كانت عمليات البيع واسعة النطاق، حيث هبطت أكثر من 95 بالمئة من أسهم مؤشر ستاندرد آند بورز 500، لكن شركات التكنولوجيا الكبرى التي قادت معظم ارتفاع السوق في وقت سابق من هذا العام كانت من بين الأكثر تضررا. وهبطت أسهم إنفيديا بنحو 15 بالمئة في التعاملات المبكرة، قبل أن تغلق منخفضة بنسبة 6 بالمئة.
أسهم التكنولوجيا من بين الأكثر تأثراً بالتراجعات، حيث شهدت انخفاضات حادة. لا سيما وأن أسواق التكنولوجيا تعتبر من أكثر الأسواق حساسية للتغيرات الاقتصادية، حيث تستثمر الشركات الكبرى في هذا القطاع مبالغ ضخمة في الابتكار والنمو.
مع تزايد المخاوف من الركود، بات المستثمرون أكثر حذراً، مما أدى إلى عمليات بيع واسعة النطاق في أسهم الشركات التكنولوجية، التي كانت من بين الأسوأ أداءً. شركات كبرى مثل “أبل” و”أمازون” و”مايكروسوفت” عانت من تراجعات ملحوظة، مما أثر بشكل كبير على القيمة الإجمالية للقطاع.
كذلك أثر التراجع في الأسواق المالية بشكل كبير على سوق العملات المشفرة أيضاً، حيث شهدت سوق الكريبتو تراجعات حادة، لتتهاوى البتكوين من مستويات فوق الـ 62 ألف دولار بنهاية الأسبوع الماضي إلى حدود الـ 50 ألف دولار، وتخسر -خلال التعاملات- نحو 200 مليار دولار من قيمتها السوقية، قبل أن تحاول الارتداد، فيما بقيت تعاني من تراجعات حادة، مع ابتعاد المستثمرين عن أصول المخاطرة تحت وطأة حالة عدم اليقين التي تسود الأسواق.
تشير هذه التطورات إلى فترة من الاضطراب في الأسواق المالية العالمية، حيث يعاني المستثمرون من حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي. وبحسب تقديرات شركة وولف للأبحاث، فإن تلك التقلبات مستمرة خلال الأشهر المقبلة.
هل أخطأ الفيدرالي؟
تراجعت الأسواق، التي كانت في ارتفاع خلال معظم هذا العام، وسط مخاوف من أن يكون الفيدرالي الأميركي بطيئاً للغاية في الاستجابة لإشارات ضعف الاقتصاد الأميركي، وقد يضطر إلى اللحاق بسلسلة من تخفيضات أسعار الفائدة السريعة.
- أبقى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على أسعار الفائدة دون تغيير عندما اجتمع الأسبوع الماضي، لكن بيانات الوظائف الأميركية التي جاءت أضعف من المتوقع يوم الجمعة دفعت بعض المستثمرين إلى استنتاج أن البنك المركزي أخطأ في عدم خفض أسعار الفائدة.
- تتوقع الأسواق الآن خفض أسعار الفائدة بنسبة 1.17 نقطة مئوية خلال الاجتماعات الثلاثة الأخيرة التي يعقدها بنك الاحتياطي الفيدرالي هذا العام، وهو ما يشير إلى خفض أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية أو خفضها بمقدار ربع نقطة مئوية.
- قد تبددت التكهنات المبكرة بشأن خفض طارئ قبل اجتماع بنك الاحتياطي الفيدرالي في سبتمبر إلى حد كبير بحلول نهاية اليوم.
وقالت مديرة المحفظة الاستثمارية في جي بي مورغان، بريا ميسرا، في تصريحات نقلتها عنها صحيفة فاينانشال تايمز: هذه نوبة غضب في السوق.. أعتقد بأن السوق ستستمر في الذعر حتى يظهر بنك الاحتياطي الفيدرالي علامات على التحرك.
فيما قال كبير مسؤولي الاستثمار في الدخل الثابت العالمي لدى بلاك روك، ريك ريدر: “أعتقد بأن أسعار الفائدة مرتفعة للغاية”. وفي حين أن الاقتصاد لا يزال “قويا نسبيا”، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي يحتاج إلى خفض أسعار الفائدة إلى نحو 4 بالمئة “في أقرب وقت ممكن”.
ومع ذلك، قال آخرون إن الانخفاض السريع في أسعار الفائدة أمر غير واقعي، وإن التحرك الطارئ قد تكون له نتائج عكسية ويخلق حالة من الذعر.
البنوك المركزية “تأخرت”!
في هذا السياق، يقول كبير الاقتصاديين في شركة ACY المالية في أستراليا، نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن
- مخاوف الركود تعتبر مخاوف حقيقية؛ فالركود هو حالة اقتصادية متكررة، وكان من المتوقع أن يحدث بعد النمو الاقتصادي القوي الذي شهدناه عقب جائحة كورونا.
- لقد أدى الطلب الكبير على البضائع والخدمات خلال الجائحة إلى ارتفاع حاد في الأسعار، مما تسبب في تفجر التضخم. ومن ثم، قامت معظم البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة لتقليل الاقتراض، وبالتالي تخفيف الضغط التضخمي.
- على الرغم من أن رفع أسعار الفائدة أسهم في تقليص التضخم، فإن استمرار هذه السياسة لفترة طويلة، جنباً إلى جنب مع انخفاض الطلب الكلي بعد الجائحة (خصوصاً في عامي 2022 و2023)، قد يسهم في دفع الاقتصاد نحو الركود.
- كان من المتوقع أن تتنبأ البنوك المركزية بهذا الانخفاض في الطلب وتتخذ إجراءات أكثر مرونة.
يضيف الشعار: “البنوك المركزية أخفقت في تقدير دورة الطلب الناتجة عن الجائحة، واعتبرتها ظاهرة مؤقتة. وهذا قد يؤدي إلى مزيد من التقلبات الاقتصادية في المستقبل”، مشدداً على أن “الوضع الحالي يبدو قاتماً ويستلزم تدخلات غير تقليدية لمنع الانهيار الاقتصادي.”
منعطف مهم
وذكر كريس ويستون، من شركة بيبرستون الأميركية للوساطة المالية عبر الإنترنت، لصحيفة “الغارديان”، أن:
- الأسواق العالمية “عند منعطف مهم”.
- “إن ما يهم الآن هو ما إذا كان مديرو الأموال والتجار يشعرون بأن المشاعر أصبحت متشائمة للغاية، أو ما إذا كان هذا التخفيض في الديون والنفور من المخاطرة يتجلى في تقلبات وهبوط أكبر.
- للإجابة على هذا السؤال الوجيه، يتعين على السوق أن ترى نتائج البيانات لتقديم ثقة متزايدة في تسعير مخاطر الركود، وكيف قد يؤدي ذلك إلى تغذية توقعات الأرباح وسلوكيات المستهلكين وقرارات الأعمال.
كما نقلت الصحيفة عن كبير مسؤولي الاستثمار في شركة أوشن بارك لإدارة الأصول، جيمس سانت أوبين، قوله:
“نحن نشهد تداعيات لعنة التوقعات العالية”!
“لقد تم استثمار الكثير من الجهود حول سيناريو الهبوط الناعم، لدرجة أن أي شيء يوحي بشيء مختلف سيكون صعباً”.
فيما كان آرت هوجان، كبير استراتيجيي السوق في بي رايلي ويلث، أكثر ارتياحاً بشأن احتمال حدوث هزيمة ساحقة. وقال: “هذا ليس إعصارًا من الفئة الثالثة، لكننا نرى كيف تتفاعل الأسواق مع العلامات التي تشير إلى أن الاقتصاد يعود إلى وضعه الطبيعي بعد أن تحول إلى اقتصاد ساخن في النصف الأول من هذا العام”. وأضاف: “قد تجد الأسواق نفسها تبالغ في رد فعلها، ويلجأ المستثمرون إلى أي شيء كذريعة لتحقيق الأرباح”.
مخاوف الركود
في تحليلها للمشهد، توضح خبيرة أسواق المال، حنان رمسيس، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- مخاوف الركود الاقتصادي أثرت بشكل ملحوظ على الأسواق المالية على المدى القصير.. فقد شهدنا انخفاضات حادة في مختلف المؤشرات العالمية، من بينها مؤشر نيكي الياباني الذي تراجع بشكل غير مسبوق منذ 1987، إلى جانب انخفاضات في مؤشر داو جونز وحتى مؤشرات الأسواق العربية.
- البعض يعزو هذه الانخفاضات إلى بيانات التوظيف الأميركية الأقل من المتوقع، إلا أن هذه البيانات وحدها لا تكفي لتأكيد دخول الاقتصاد في ركود.
- إلى جانب ذلك، أسهمت التوترات الجيوسياسية في زيادة حالة عدم اليقين في الأسواق.
- الفيدرالي الأميركي لجأ إلى تثبيت أسعار الفائدة وهو ما أثر سلباً على الأسواق العالمية.
وفي وجهة نظر مغايرة، ترى رمسيس أن هذه التقلبات قد تعكس صراعات داخل الإدارة الأميركية حول السياسات الاقتصادية، حيث يسعى بعض الأطراف إلى تصعيد التوترات العالمية لتحقيق مكاسب سياسية، على حد اعتقادها.
وللتغلب على هذه التقلبات، تشدد رمسيس على أهمية اتخاذ إجراءات تهدف إلى تنشيط الاقتصادات المحلية وتقليل الاعتماد على الاقتصاد الأميركي، من خلال قرارات حكيمة من البنوك المركزية بشأن السياسات النقدية.
فيما تتوقع أن تشهد الأسواق العالمية بعض التعافي في الفترة المقبلة، خاصة إذا قام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بتوضيح موقفه بشأن السياسات النقدية المستقبلية بشكل يطمئن الأسواق.
تراجعات مؤقتة
من جانبه، يعتقد الشريك المؤسس لأكاديمية ماركت تريدر لدراسات أسواق المال، عمرو زكريا عبده، بأن الأسواق بشكل عام بدأت تتقبل الأخبار السلبية، بل ربما حتى ترحب بها؛ لأنها تعني أن البنوك المركزية، التي باتت تقوم بدور أكبر في ضبط الأسواق بضبطها السيولة، تأخذ أية علامة لركود اقتصادي على أنها إشارة لإتخاذ سياسات نقدية متساهلة، والتي بدورها وبشكل عام تعتبر عامل دفع لأسواق الأسهم بعد ذلك.
ويقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: في تقديري، أي تراجع في مستويات الأسهم، سيكون متوقع ومؤقت؛ لأنه ستكون هناك الكثير من عمليات جنى الأرباح عند المستويات المرتفعة التي تسبق هذا التراجع.