تشهد منطقة اليورو حالة من التباين الاقتصادي، حيث يواجه أكبر اقتصاد فيها، ألمانيا، تباطؤاً ملحوظاً في الوقت الذي تسجل فيه المنطقة نمواً إجمالياً.
وهذا التناقض يثير تساؤلات حول طبيعة النمو وهل يعكس انتعاشاً حقيقياً أم مجرد خروج مؤقت من الركود؟ وهل يمكن للاقتصاد الألماني، بوصفه المحرك الرئيسي لمنطقة اليورو، أن يكبح جماح هذا النمو؟ تلك التساؤلات تكتسب أهمية خاصة في ظل التحديات الاقتصادية العالمية المتزايدة.
ونما اقتصاد منطقة اليورو بأكثر من المتوقع في الربع الثاني من عام 2024، ليرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.3 بالمئة مقارنة مع الربع الأول، بحسب البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاءات الأوروبي، في حين توقع خبراء اقتصاديون زيادة بنسبة 0.2 بالمئة على أساس ربع سنوي.
وكانت منطقة اليورو دخلت في ركود تقني في النصف الثاني من عام 2023، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي في كل من الربعين الثالث والأخير من العام.
وتشير بيانات أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، بأن الاقتصاد الألماني انكمش بنسبة 0.1 بالمئة في الربع الثاني 2024، وتعد ألمانيا واحدة من بين أربعة بلدان فقط انخفض الناتج المحلي الإجمالي لديها في الربع الثاني 2024 حيث سجلت كل لاتفيا والسويد وهنغاريا انكماشاً في اقتصادها.
تعافٍ بحذر
وقال بيرت كولين، كبير الاقتصاديين لمنطقة اليورو لدى بنك (آي إن جي) “إن البيانات تشير إلى أن اقتصاد المنطقة يتعافى إلى حد ما، فبعد الركود طوال عام 2023، يعد هذا أمراً مطمئنًا ويبين أن الاقتصاد بدأ في التعافي بحذر”، مضيفاً أن الاقتصاد في وضع أفضل الآن مما كان عليه قبل عام، وفقاً لتقرير نشرته شبكة (سي إن بي سي) الأميركية واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”.
ولكن كولين أوضح أن “البيانات الأخيرة لا تعطي الكثير من الثقة في أن اقتصاد منطقة اليورو يتسارع أكثر”.
بدوره، قال كلاوس فولرابي، رئيس قسم الاستطلاعات في معهد (آي إف أو): “إن الاقتصاد الألماني عالق في الأزمة” وإنه لا يتوقع تحسناً كبيراً في الربع الثالث أيضاً”.
ومن ناحية أخرى، سجلت أيرلندا أخرى أكبر نمو بنسبة 1.2بالمئة في الربع الثاني، بينما سجل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، فرنسا، نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.3 بالمئة خلال الفترة نفسها.
تجانس اقتصادي منخفض
وفي حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، قال نضال الشعار الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY”: “عند الحديث عن الاتحاد الأوروبي فلا بد من الإشارة بداية إلى أنه اتحاداً سياسياً أكثر منه اقتصادياً أو حتى ثقافياً واجتماعياً، ومن الناحية الاقتصادية، إن درجة تجانس الدول المكونة للاتحاد منخفضة ولا يمكن مقارنتها مع الولايات المتحدة مثلاً والتي قامت تاريخياً على نفس الأسس والمبادئ”.
ويرى أن نمو منطقة اليورو يعد انتعاشاً مؤقتاً ولن يطول لأن هناك مؤشرات كثيرة على أن الاقتصاد العالمي وليس فقط منطقة اليورو يمكن أن يدخل في حالة تباطؤ اقتصادي، وقد بدأنا نلمس ذلك في الصين وروسيا وحتى سوق العمل في الولايات المتحدة بدأ بالتباطؤ”.
وأشار إلى أن الأسواق والاقتصادات بشكل عام هي في حالة تباطؤ وإن كان هناك انتعاشاً فهو مؤقت ولن يكون حقيقياً، موضحاً أن الاقتصاد العالمي مؤهل لأن يدخل في حالة ركود تضخمي في حال استمرت الأسعار في مستواها الحالي أو ار تفعت أكثر نتيجة التوترات الجيوسياسية العالمية وما يحصل حالياً في منطقة الشرق الوسط”.
اقتصاد ألمانيا أكثر حساسية للمتغيرات
وفيما يتعلق بالاقتصاد الألماني، أوضح الشعار أن هذا الاقتصاد اعتمد بعد الحرب العالمية الثانية على إنشاء مشاريع ومؤسسات عملاقة قادرة على اختراق الأسواق العالمية بعكس دول الاتحاد الأوروبي الأخرى والتي وإن قامت بالتصدير، فإن ذلك يعتمد على الشركاء الإقليميين، وبالتالي فإن الاقتصاد الألماني يعد أكثر حساسية للمتغيرات العالمية والتوترات الجيوسياسية ودرجة نمو التجارة الدولية ومعدلات التضخم مع شركائها التجاريين معها مما يؤثر على تكلفة المستوردات وبالتالي القدرة على تسويق الصادرات.
وأرجع التأثير الأكبر على الاقتصاد الألماني إلى جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية نتيجة درجة انفتاحه على الدول الأخرى وحاجاته فيما يخص الطاقة والغذائيات التي يعتمد فيها على ما يستطيع استيراده من الخارج وهذا التأثير لا يزال واضحاً في الاقتصاد من حيث ارتفاع درجة الحذر والخوف من الدخول في استثمارات جديدة أو تحقيق نمو مضطرب في مستوى الإنتاج.
وأيضاً لا يمكن تجاهل آثار الركود الاقتصادي الذي أصاب دولاً عديدة في عام 2023 وألمانيا كدولة مصدرة ومتنوعة بطبيعة شركائها التجاريين كان لا بد لها أن تتأثر بهذا الركود والتي لا تزال تعاني منه حتى الآن مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة والذي وهو ما خفض الطلب الكلي عل البضائع الألمانية، بحسب تعبيره.
وأردف الخبير الاقتصادي الشعار بقوله: “إن أكثر عامل مؤثر في الاقتصاد الألماني كان الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة والخوف والذعر اللذين كانا واضحين في كافة المؤسسات الرسمية والاقتصادية ولا يزال هذا الوضع يخيم على اقتصاد البلاد أكثر بكثير من الاقتصادات الأوروبية الأخرى ويجب ألا ننسى أن الاستثمارات التي قامت بها الحكومة الألمانية لتأمين حجم هائل من الطاقة والغذائيات هي حقيقة عملية تخزين وليست عملية استثمار مما أدى إلى نوع من أنواع الركود في الاقتصاد”.
ولكن في المقابل، فإن ألمانيا تعد من الدول المتوازنة والحكيمة في مسائل الدين الحكومي واستقرار الموازنات (لا يتجاوز حجم الدين فيها 64 بالمئة من حجم الناتج المحلي) وهو ما يمنحها القدرة المستقبلية والمساحة لتحفيز الاقتصاد من خلال سياسات اقتصادية استثمارية توسعية، ومن المرجح أن تقوم ألمانيا بذلك في حال استمر الاقتصاد بالتباطؤ في الوقت الذي تعاني فيه من الناحية السكانية والتقدم في نسبة أعمار نسبة كبيرة من سكانها الذي يشكلون ضغطاً على نفقات الصحة مصاريف التقاعد، بل هو الجحل الوحيد أمام الحكومة الألمانية، طبقاً لما قاله كبير الاقتصاديين في شركة “ACY”.
انتعاش غير مستدام
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي والمالي، حسين القمزي، في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن النمو في منطقة اليورو في الربع الثاني من هذا العام يشير إلى تعاف متواضع وليس انتعاشاً اقتصادياً مستداماً، على الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة ارتفع بشكل أفضل من المتوقع وهو ما يشير إلى بعض التحسن بعد فترة من الركود منذ عام 2023،
لكن القمزي يؤكد في الوقت ذاته انه ليس هناك ما يدل على أن الاقتصاد في منطقة اليورو يتسارع بشكل مقبول لنعتبر ذلك انتعاشاً.
وأضاف الخبير الاقتصادي والمالي: “لو نظرنا إلى الاقتصاد الألماني، فقد انكمش بنسبة 0.1 بالمئة في نفس الفترة، خلافاً للتوقعات بنمو طفيف، وألمانيا هي أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، فلا يمكن أن يكون هناك انتعاش في المنطقة الأوروبية وأهم جزء من اقتصادها في حالة انكماش”.
كما أن الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي لا يقتصر على ألمانيا، بل هناك تراجعات في دول أخرى مثل لاتفيا والسويد والمجر، وكل هذا يدل على وجود العديد من نقاط الضعف داخل منطقة اليورو، بحسب القمزي، الذي “اعتبر أن النمو في بعض دول المنطقة يعد نمواً غير متكافئ، ما يعني أن مسار الخروج من الركود لا يزال ضبابياً”.
يشار إلى أن هذه البيانات الجديدة لمنطقة اليورو تأتي في وقت أبقى البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة دون تغيير في اجتماعه في وقت سابق من هذا الشهر، عند 4.25 بالمئة، قائلاً إن خيار خفض الفائدة في سبتمبر “مفتوح على مصراعيه”.
وخلال اجتماعه مطلع يونيو الماضي، خفض البنك المركزي الأوروبي معدلات الفائدة لأول مرة منذ عام 2019 بمقدار 25 نقطة أساس، لتصل إلى مستوى 4.25 بالمئة.