تواجه شركات التكنولوجيا في وادي السيليكون تحديات متزايدة تتعلق بإعادة تقييم سياسات التوظيف وإدارة الموارد البشرية، في ظل السعي لتعزيز الكفاءة وتقليص الأداء الضعيف.
ومع تزايد الضغوطات لتحقيق النمو في بيئة اقتصادية متقلبة، باتت الشركات تعتمد بشكل متزايد على أساليب جديدة لتقييم إنتاجية الموظفين، مما يؤدي إلى إثارة جدل حول العدالة في هذه التقييمات وأثرها على الابتكار.
يعكس هذا التحول رغبة القطاع في التخلص من التكاليف غير الضرورية والتركيز على الموظفين ذوي الأداء المتميز القادرين على دفع عجلة التطور التكنولوجي.
وفي خضم هذه الحالة، شهدت الفترة الأخيرة موجات تسريح واسعة النطاق، حيث تحاول الشركات موازنة التكاليف التشغيلية مع الاحتياجات المتغيرة للسوق. وقد أثارت هذه العمليات تساؤلات حول مدى تأثيرها على معنويات الموظفين والثقافة التنظيمية، بينما تظهر شركات وادي السيليكون إصرارًا على تبرير هذه التحركات باعتبارها ضرورية للبقاء في صدارة المنافسة.
ومع تصاعد التركيز على الإنتاجية وتحديد القيمة الحقيقية لكل موظف، يبدو أن قطاع التكنولوجيا يمر بمرحلة تحول جوهري تعيد صياغة العلاقة بين الشركات وموظفيها.
قدم باحث من جامعة ستانفورد آلية جديدة تسعى لتحديد الموظفين ذوي الأداء المنخفض في قطاع التكنولوجيا.
ووفقاً لبحث أُجري على أكثر من 50 ألف مبرمج في مئات الشركات، فإن حوالي 9.5 بالمئة من المبرمجين يندرجون تحت ما أطلق عليه الباحث مصطلح “المهندسين الأشباح”، وهم الموظفون الذين يقومون بالحد الأدنى من العمل.
يأتي هذا البحث وسط تركيز متزايد في وادي السيليكون على تحسين الإنتاجية واستئصال الموظفين غير المنتجين، بحسب تقرير لـ “بيزنس إنسايدر” اطلع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عليه.
قاد البحث يغور دينيسوف-بلانش، الباحث في ستانفورد، حيث طور فريقه خوارزمية تقوم بتحليل مستودعات الأكواد على منصة GitHub لتقييم أداء المبرمجين.
لا تقتصر الخوارزمية على قياس كمية الكود المكتوب، بل تأخذ في الاعتبار معايير مثل قابلية الصيانة، حل المشكلات المعقدة، وسهولة التنفيذ.
وجدت الخوارزمية أن 9.5 بالمئة من المبرمجين لا ينجزون سوى 10 بالمئة أو أقل من إنتاجية زملائهم. ووصف بلانش هندسة البرمجيات بأنها “صندوق أسود”، حيث يصعب قياس أداء المهندسين بشكل دقيق باستخدام الطرق التقليدية.
وأشار إلى أن الطرق الحالية تفتقر إلى العدالة، لأنها قد تفضل تغييرات كبيرة في الكود لكنها بسيطة في طبيعتها، على حساب تغييرات صغيرة ولكنها معقدة تقنياً.
لم تتم مراجعة البحث من قبل النظراء، مما يثير بعض التساؤلات حول نتائجه. علاوة على ذلك، فإن اختيار الشركات المشاركة في الدراسة كان تطوعياً، مما قد يؤدي إلى تحيز في النتائج.
في المقابل، لم تصنف الدراسة المبرمجين الذين كانت إنتاجيتهم بين 11 و12 بالمئة من متوسط أداء زملائهم كـ”مهندسين أشباح”، على الرغم من أنهم قد يكونون غير منتجين بشكل كبير، مما يعني أن النسبة الفعلية قد تكون أعلى أو أقل من 9.5 بالمئة.
- يأتي هذا البحث في وقت يشهد وادي السيليكون تركيزاً متزايدًا على التخلص من الأداء الضعيف.
- في سبتمبر، نشر المؤسس المشارك لـ Y Combinator بول غراهام، مقالًا أيد فيه أسلوب إدارة يُعرف بـ “وضع المؤسس”. ينتقد هذا الأسلوب التقاليد الإدارية التي تترك الموظفين يعملون بحرية، واصفاً ذلك بأنه يؤدي إلى توظيف “مخادعين محترفين” يدمرون الشركات.
- على رأس هذه الحملة كان إيلون ماسك، الذي أقال 80 بالمئة من موظفي تويتر (المعروف الآن بـ (إكس) بعد شرائه للشركة في العام 2022. وقد أكد ماسك أن تخفيض الموظفين لم يؤثر على الخدمة، مضيفاً: “إذا غرقت السفينة بأكملها، فلن يكون لأحد وظيفة.”
تناولت الدراسة أيضاً تأثير العمل عن بُعد على الإنتاجية. وأظهرت النتائج أن نسبة “المهندسين الأشباح” بين العاملين عن بُعد كانت أكثر من ضعف النسبة بين العاملين في المكاتب.
ومع ذلك، أبرز البحث أن العديد من أفضل المبرمجين، الذين كانت إنتاجيتهم تزيد بمقدار خمسة أضعاف عن متوسط أداء زملائهم، كانوا يعملون عن بُعد.
في هذا السياق، دعا ماسك إلى إنهاء العمل عن بُعد في الحكومة الفيدرالية الأميركية، قائلًا: “إذا كان الموظفون لا يريدون الحضور للعمل، فلا ينبغي أن يدفع لهم دافعو الضرائب مقابل امتياز البقاء في المنزل.”
يمثل بحث دينيسوف-بلانش محاولة لحل معضلة قياس أداء مهندسي البرمجيات، لكن نتائجه تثير نقاشات أوسع حول العدالة في تقييم الأداء ومعايير الإنتاجية. وبينما يعكس البحث تحولًا في وادي السيليكون نحو تعزيز الكفاءة، فإنه يثير تساؤلات حول تأثير هذا النهج على معنويات الموظفين والابتكار.
مراجعة مستمرة
في هذا السياق، يبرز البحث كجزء من الجهود المتزايدة داخل قطاع التكنولوجيا لتطوير أدوات تساعد على تقييم الأداء الفردي للموظفين بدقة أكبر.
من خلال خوارزميته التي تسلط الضوء على مفهوم “المهندسين الأشباح”، يعكس البحث اتجاهاً واضحاً في وادي السيليكون نحو استئصال الأداء الضعيف وتقليل الاعتماد على الموظفين غير المنتجين.
تأتي هذه متزامنة مع موجات تسريح واسعة في عديد من الشركات التكنولوجية الكبرى، والتي تسعى ليس فقط إلى تقليص التكاليف التشغيلية، ولكن أيضاً إلى إعادة تشكيل هياكلها التنظيمية بطرق تضمن أقصى استفادة من الموارد البشرية المتاحة. ومن خلال ربط مثل هذه الدراسات بعمليات التسريح الجارية، تتضح رؤية القطاع في تعزيز الكفاءة وتحقيق التوازن بين الابتكار والفعالية التشغيلية.
فائض العمالة
في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يلفت العضو المنتدب لشركة “أي دي تي” للاستشارات والنظم التكنولوجية، محمد سعيد، إلى أن شركات التكنولوجيا الكبرى تعاني بوضوح من فائض العمالة، وهو أمر يظهر جليًا في موجات التسريح الكبيرة التي شهدتها هذه الشركات في السنوات الأخيرة (2022-2024).
ويشير إلى أن شركات مثل أمازون، ميتا، وإكس (تويتر سابقًا) تصدرت عمليات تسريح العمالة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تسريحات إكس ارتبطت بانتقال الملكية إلى إيلون ماسك وإعادة الهيكلة الجذرية التي أجراها.
ويوضح محمد سعيد أن هذا الفائض في العمالة يعود إلى عاملين رئيسيين:
- زيادة الطلب خلال جائحة كوفيد-19: خلال فترة الجائحة، ارتفع الطلب على التكنولوجيا بشكل كبير مع انتعاش التجارة الإلكترونية والعمل عن بُعد، مما دفع الشركات إلى توظيف عدد كبير من الموظفين لمواكبة هذا الطلب. ومع انتهاء الجائحة وعودة الحياة إلى طبيعتها، أصبح هذا التوظيف الإضافي يمثل عبئًا على الشركات.
- تزايد الاعتماد على الذكاء الصناعي: الذكاء الصناعي بدأ يأخذ أدوارًا عديدة كان يقوم بها الموظفون التقليديون، مما أدى إلى تقليل الاعتماد على العنصر البشري. هذه الظاهرة لم تقتصر على الشركات الكبرى فقط، بل امتدت إلى الشركات الصغيرة التي وجدت في الذكاء الصناعي وسيلة لخفض التكاليف.
ويُبرز في الوقت نفسه تأثير عمليات التسريح على استقرار الأعمال، مؤكداً أن تأثير هذه العمليات يتفاوت بين الجوانب المالية والفنية، على النحو التالي:
- ماليًا: تسهم عمليات التسريح في تخفيف العبء المالي للشركات، مما يمكنها من تحسين قدرتها على مواجهة التحديات مثل قضايا الاحتكار وغيرها.
- فنياً: تسريح العمالة يسبب فقدان الخبرات المكتسبة على مر السنين، مما يؤدي إلى تراجع في الكفاءة الفنية لبعض العمليات.
ويختتم حديثه بالإشارة إلى أن تسريح العمالة يمثل للشركات فرصة لإعادة الهيكلة وزيادة مرونتها للتكيف مع التغيرات السريعة في السوق. لكنه أشار أيضًا إلى الجانب السلبي، حيث إن عدم الاستقرار الناجم عن هذه العمليات قد يؤثر على معنويات الموظفين المتبقين، مما يشكل تحديًا إضافيًا أمام استقرار الأعمال.
أسباب أساسية لموجات التسريح
فائض العمالة أو التباين بين الموظفين من بين مجموعة من الأسباب المختلفة وراء توسع دائرة التسريح في شركات العمالة، والعمليات التي عادة ما تثير لغطاً واسعاً.
في هذا السياق، المستشار الأكاديمي بجامعة سان خوسيه الحكومية في كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه على الرغم من أن شركات التكنولوجيا الكبرى قد شهدت توسعًا كبيرًا في عدد موظفيها خلال فترات النمو السريع، فإن هذا لا يعني أنها بمنأى عن تأثيرات تسريح العمال، مشيراً إلى أن ثمة مجموعة معقدة من العوامل التي تجعل هذه الشركات تلجأ أحيانًا إلى خفض القوى العاملة.
ويضيف:
- شركات التكنولوجيا تعمل في قطاع يتميز بسرعة التغير والتطور.. التقنيات الجديدة تظهر بوتيرة متسارعة، والأسواق تتبدل باستمرار بناءً على الابتكارات والمنافسة العالمية.
- ما كان مطلوبًا من مهارات وخبرات قبل سنوات قليلة قد يصبح غير ضروري في ظل ظهور تقنيات جديدة. على سبيل المثال، مع التركيز المتزايد على الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، قد تصبح المهارات التقليدية أقل قيمة.
- الشركات تواجه أحيانًا صعوبة في مواكبة التغيرات السريعة في الأسواق، مما قد يؤدي إلى تقليص العمليات أو تسريح الموظفين في بعض الأقسام.
الأداء المالي
وحول العوامل المرتبطة بالأداء المالي وضغوط السوق، فيشير إلى أن الشركات ذات الأصول الضخمة قد تواجه أوقاتًا عصيبة نتيجة للتباطؤ الاقتصادي أو المنافسة المتزايدة.
- فترات الركود تؤدي إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي والشركات، مما يضغط على إيرادات شركات التكنولوجيا الكبرى.
- دخول شركات ناشئة مبتكرة أو منافسين دوليين بأسعار تنافسية قد يضع ضغوطًا على عمالقة التكنولوجيا لتحسين كفاءتها وخفض تكاليفها.
- حتى مع الإيرادات المرتفعة، يمكن أن تواجه الشركات ضغطًا من المستثمرين لزيادة الأرباح، مما قد يدفعها إلى تسريح العمال وتقليص النفقات.
وتبرز كذلك عوامل متعلقة بإعادة الهيكلة كجزء من الاستراتيجية طويلة الأجل بالنسبة لشركات التكنولوجيا، إذ تقوم الشركات بإعادة هيكلة عملياتها من وقت لآخر لتحسين الكفاءة أو التركيز على مجالات نمو جديدة.
- إعادة تخصيص الموارد البشرية والمالية نحو مشاريع استراتيجية جديدة، مثل الاستثمار في الذكاء الاصطناعي أو الطاقة النظيفة، قد يؤدي إلى الاستغناء عن الأقسام غير ذات الأولوية.
- تسعى الشركات إلى تحسين الإنتاجية من خلال دمج العمليات وتقليل التكرار، مما قد يؤدي إلى تسريح موظفين في بعض الأدوار.
ويوضح بانافع في الوقت نفسه أن التقدم في الذكاء الاصطناعي والأتمتة أحدث تحولًا جذريًا في كيفية تنفيذ العمليات داخل الشركات، ذلك أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تقلل من الحاجة إلى العامل البشري في العديد من المجالات مثل دعم العملاء وتحليل البيانات.
ويضيف: “بالرغم من تسريح بعض الموظفين، فإن الشركات تخلق فرص عمل جديدة تتطلب مهارات متقدمة في مجالات مثل تعلم الآلة وهندسة البيانات”
ويتحدث عن أسباب إضافية وراء تسريح العمال، من بينها التوسع السريع غير المدروس، علاوة على تغيير الاستراتيجية التجارية، أو الاندماجات والاستحواذات.