هذه التحولات الديموغرافية تطرح تساؤلات حول مستقبل الاقتصاد الصيني، كيف سيؤثر هذا التغيير في التركيبة السكانية على نمط الاستهلاك؟ وما هي المنتجات والخدمات التي ستلبي احتياجات الجيل الجديد من المستهلكين، ألا وهو كبار السن؟ هل ستشهد الصناعات التقليدية تحولاً جذرياً لتلبية هذه الاحتياجات المتزايدة؟ وكيف ستستجيب الشركات والسياسات الحكومية لهذه التغيرات؟
وتعاني الصين من انخفاض معدلات المواليد وتزايد عدد كبار السن بشكل سريع، مما أدى إلى تقليص عمليات عشرات الآلاف من رياض الأطفال وإغلاقها بالكامل أو تحويلها إلى صناعات أخرى للبقاء على قيد الحياة، إذ لا يزال أحد رياض الأطفال في مقاطعة تشجيانغ الشرقية يعمل كمركز للرعاية النهارية، لكن بدلاً من رعاية الأطفال، يقدمون الآن خدماتهم لكبار السن، بحسب تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” الأميركية واطلعت عليه سكاي نيوز عربية بعنوان “عصر الاقتصاد الفضي.. الصين تحول رياض الأطفال إلى دور لرعاية المسنين مع تفاقم الأزمة الديموغرافية”.
الاقتصاد الفضي
والاقتصاد الفضي هو نظام اقتصادي يُعنى بتوفير احتياجات كبار السن (الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 50 عاماً) من سلع وخدمات ورعاية صحية وتحسين جودة حياتهم وخلق مجالات عمل جديدة لهم.
وانخفضت معدلات المواليد في الصين بشكل كبير منذ أن نفذت الحكومة “سياسة الطفل الواحد” في جميع أنحاء البلاد عام 1980. على الرغم من تخفيف البلاد للسياسة في عام 2016، استمر معدل المواليد في الانخفاض وبين عامي 2021 و2023، انخفض عدد الأطفال في مرحلة التعليم قبل المدرسي بنسبة 15 بالمئة إلى ما يقرب من 41 مليون طفل، بحسب تقرير الشبكة الأميركية.
وذكر التقرير أنه بينما تعاني رياض الأطفال، تزدهر صناعة رعاية كبار السن في أزمة شيخوخة السكان في الصين، ليتضاعف عدد مؤسسات ومرافق خدمات رعاية المسنين من عام 2019 إلى أكثر من 410 ألف مؤسسة في شهر أكتوبر 2024، مشيراً إلى أن الحكومة الصينية عززت التدابير السياسية لتعزيز “الاقتصاد الفضي”، في محاولة لمعالجة شيخوخة السكان في البلاد. حيث دعا المكتب العام لمجلس الدولة إلى التعجيل بـ “تنمية مؤسسات رعاية المسنين” وتحفيز “استهلاك كبار السن”.
وقال هاري مورفي كروز، الاقتصادي في موديز أناليتكس: “ستزداد شيخوخة الصين”. وتوقع أنه بحلول عام 2040، سيكون نحو 30 بالمئة من إجمالي السكان فوق سن 65 عاماً، من 15 بالمئة اليوم، مع انخفاض عدد الأشخاص دون سن 15 عاماً إلى ما يزيد قليلاً عن 10 بالمئة، من 17 بالمئة الآن، وستزيد هذه الشيخوخة من الحجم السوقي المحتمل للسلع والخدمات المستهدفة لكبار السن”.
بدوره، قال تيانشن شو، الاقتصادي في وحدة الاستخبارات الاقتصادية: “إن كبار السن هم فرصة السوق الكبيرة التالية ذات اليقين العالي، وكبار السن يميلون أيضاً إلى أن يكونوا أكثر قوة مالية، حيث تراكمت ثرواتهم مع صعود الصين الاقتصادي، في حين قالت لين سونغ، كبير الاقتصاديين في ING في الصين، إن السكان المتقاعدين أو الذين على وشك التقاعد لديهم “أموال لإنفاقها”، وأنهم يسعون إلى “حياة ما بعد التقاعد عالية الجودة”.
عملية ديناميكية
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الدكتور عبد الله الشناوي الخبير الاقتصادي، وأستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق: “بعد دخول القرن الحادي والعشرين، بدأت الصين تدخل مجتمع الشيخوخة بشكل عميق، ويعزى هذا الجانب إلى انخفاض عدد السكان الشباب وزيادة عدد السكان المسنين بسبب انخفاض معدل المواليد ومعدل الوفيات، مما يظهر الشيخوخة السكانية. وعلاوة على ذلك، وبسبب تمدد عمر السكان المتوقع، يستمر عمر السكان الحالي في النمو. ويشهد عدد المسنين في المجتمع اتجاهاً متزايداً تدريجياً وسيؤدي في النهاية إلى زيادة نسبة السكان المسنين، وتستمر درجة الشيخوخة الاجتماعية في التعمق، في حين أن التغيير في كلا الجانبين سيمارس تأثيرات متعددة على الاستهلاك”.
وتمثل الشيخوخة عملية ديناميكية يتزايد فيها عدد كبار السن كنسبة من السكان مما يؤدي إلى خلق التحديات والفرص، ويجسد الاقتصاد الفضي بالضبط فرصة الشيخوخة السكانية. من منظور عملية الحياة، يدخل كبار السن مرحلة الحياة من كونهم مستهلكين خالصين بعد أن عاشوا حياة إنتاجية، وزيادة عدد كبار السن في المجتمع تعني وجود زيادة مقابلة في نسبة الإعالة. ومن منظور الطلب الاقتصادي، أصبح كبار السن مجموعة مستهلكين ذات أهمية متزايدة في التنمية الاقتصادية، وأصبحت مطالبهم الاستهلاكية عوامل رئيسية تؤثر على الطلب الاقتصادي الإجمالي، بحسب تعبيره.
خصائص شيخوخة السكان
وأشار الدكتور الشناوي إلى خصائص شيخوخة السكان الصينيين وفقاً لما يلي:
- شمولها عدد كبير من الناس وهو ما يحتل المرتبة الأكبر في العالم، وفي الوقت نفسه يخلق أكبر سوق استهلاكية لكبار السن في العالم.
- النمو السريع مما يضاعف حصة كبار السن في تعداد السكان الوطني بأكثر من الضعف من 18.7 بالمئة في عام 2020 إلى أكثر من 40 بالمئة بحلول منتصف هذا القرن، مما يشكل مجتمعاً فائق الشيخوخة، وهذا سيصنف الصين كواحدة من الدول ذات الشيخوخة العالية في العالم. وسيصبح طلب واستهلاك كبار السن التيار الرئيسي للطلب والاستهلاك الاجتماعي، مما يخلق طلباً استهلاكياً واسع النطاق ومستقراً في الأجل الطويل.
- إن الشيخوخة السكانية وانخفاض معدلات المواليد يمكن أن يؤثر بشكل كبير على هيكل الاستهلاك الأسري، فمن المتوقع أن تؤدي التغييرات في هيكل أعمار السكان إلى انخفاض إنفاق المستهلكين على النقل وزيادة الإنفاق على الإسكان والمرافق والأغذية والمشروبات غير الكحولية ومنتجات وخدمات الصحة.
- إن إدراج العوامل الديموغرافية في دراسة الإنفاق الاستهلاكي لا يوفر فهماً نظرياً لشيخوخة السكان في الصين فحسب، بل يشجع الحكومة أيضاً على تطوير سوق استهلاك كبار السن بنشاط وتوسيع الاستهلاك، وخاصة في صناعة الخدمات.
ويتوقع معهد فودان لبحوث الشيخوخة أنه على أساس معدل النمو المعتدل لاستهلاك الفرد، فإن حجم الاقتصاد الفضي سيبلغ 19.1 تريليون يوان في عام 2035، وهو ما يمثل 27.8 بالمئة من إجمالي الاستهلاك و9.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين. وسيبلغ حجم الاقتصاد الفضي 49.9 تريليون يوان في عام 2050، وهو ما يمثل 35.1 بالمئة من إجمالي الاستهلاك و12.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين، ومن المتوقع أن يصل عدد كبار السن في الصين إلى 300 مليون في عام 2025، وأكثر من 400 مليون في عام 2033، و500 مليون في عام 2049، مما يجعل الصين الدولة التي تضم أكبر عدد من كبار السن في العالم حتى عام 2070، بحسب أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق.
ويشرح الدكتور الشناوي أنه من الآن وحتى منتصف هذا القرن، سيكون لدى الصين أكبر مجموعة من المستهلكين المسنين في العالم وأكبر سوق للمستهلكين المسنين في العالم، مما يفتح مساحة واسعة لتنمية الاقتصاد الفضي. ومن ثم فإن المفتاح لمواجهة هذا التحدي هو تحويل سوق الاستهلاك الكامنة المحتملة، والتي تعتمد على الحجم الكبير من السكان المسنين، إلى سوق استهلاكية فعالة تعتمد على القوة الاستهلاكية، مشيراً إلى أن تعزيز الاستهلاك وتطوير الاقتصاد الفضي لا يعني فقط تعزيز الخدمات المقدمة لكبار السن وتحسين نوعية حياتهم، بل جزءاً مهماً من تحقيق التنمية عالية الجودة في الصين من خلال:
- إن تطوير الاقتصاد الفضي يسهم في تلبية احتياجات كبار السن من الاستهلاك، وفي توسيع الطلب المحلي مما سيعزز النمو الاقتصادي. فكبار السن ليسوا غرباء عن نمو الاقتصاد الفضي، بل إنهم يدعمون الثروة الاجتماعية بدلاً من أن يشكلوا عبئاً عليها.
- استغلال كامل الأدوار التي تؤديها الحكومة والسوق في النظام الاقتصادي الفضي، وأن تعزز التنمية المنسقة للصناعات ذات الصلة بكبار السن.
- بناء نظام منهجي لشيخوخة الصناعة لتعزيز تنمية الاقتصاد الفضي وذلك برسم خطط تستند إلى الوضع العام للتنمية الاقتصادية عالية الجودة.
- يجب على الحكومة ضمان تحقيق الشمولية على أساس مبدأ العدالة، والسعي لتلبية الاحتياجات الأساسية لجميع كبار السن، وزيادة الخدمات الشاملة، وبناء شبكة شاملة للأمن الاجتماعي لكبار السن. وصياغة معايير الجودة للمنتجات والخدمات لكبار السن، وتوحيد ومراقبة أنشطة السوق، وتعزيز نطاق وتجمع وبناء العلامة التجارية للاقتصاد الفضي.
- السماح بدور السوق بنشاط، والالتزام بمبدأ الكفاءة، عن طريق تعزيز تخصيص موارد صناعة الشيخوخة في السوق، وتوجيه وتشجيع جميع أنواع كيانات السوق على المشاركة بنشاط، وزيادة المنتجات والخدمات لكبار السن، وتعزيز العقارات والتمويل لرعاية المسنين، وإيجاد صناعات جديدة، ونماذج أعمال جديدة.
تعزيز الاستهلاك والنمو الاقتصادي
ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي أنه حتى يتم تعزيز الاستهلاك الكلي والنمو الاقتصادي في ظل شيخوخة السكان في الصين يجب التركيز على المجالات التالية:
- الصناعة الثقافية: يجب أن توفير المنتجات والخدمات الثقافية، مثل التعلم مدى الحياة والإبداع الفني.
- صناعة الصحة: يجب على الدولة الالتزام بمفاهيم الشيخوخة الإيجابية والصحية وبناء نظام خدمات صحية يتكيف مع مجتمع الشيخوخة، وتوفير خدمات مثل إدارة الصحة والخدمات الصحية الرقمية.
- التصنيع: يجب أن يتوافق التصنيع مع هيكل وتفضيلات ومستويات واتجاهات وخصائص الاحتياجات الجديدة والاستهلاك الجديد في عصر الشيخوخة مثل الضروريات اليومية والأجهزة الذكية.
- الإسكان والصناعات ذات الصلة: يجب أن تظل متماشية مع التغييرات الكبيرة في مجتمع الشيخوخة، مثل التصميم المعماري وخدمات العقارات، لمساعدة الناس على تحقيق حياة ذات جودة عالية.
- الخدمات: ينبغي أن تشمل جميع جوانب خدمة الحياة، مثل تقديم الطعام والتدبير المنزلي.
- الصناعة المالية: ينبغي أن توفر الاستعدادات المالية لرعاية المسنين وتروج لتخصيص أفضل للأصول المالية، مثل التأمين والعقارات.
جيل جديد من المستهلكين
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “تعد الشيخوخة إحدى أبرز التحولات الديمغرافية في القرن الحادي والعشرين، حيث تشهد معظم دول العالم، وخاصة في الغرب، زيادة ملحوظة في عدد كبار السن ونسبتهم من إجمالي السكان وتتزايد أهمية كبار السن كجيل جديد من المستهلكين، حيث سيتطلبون سلعاً وخدمات متنوعة، تشمل الرعاية الصحية والإسكان والخدمات الترفيهية. يعكس هذا التحول في التركيبة السكانية الفرص الاقتصادية المتاحة، حيث يمكن لكبار السن أن يساهموا بشكل فعال في الاقتصاد من خلال استهلاكهم وقدرتهم على المشاركة في الأنشطة الإنتاجية”.
ومع زيادة نسبة كبار السن في بعض الأمم الغربية تواجه هذه الدول تحديات في أنظمة الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية مما يشكل ضغوطاً سياسية ومالية كبيرة، خاصة مع تزايد الالتزامات المالية المترتبة على خدمات الرعاية، إذ من المتوقع أن تشهد الدول المتقدمة مثل اليابان ودول الاتحاد الأوروبي انكماشاً سكانياً، مما يهدد استدامتها، وفي المقابل، تتيح شيخوخة السكان في الصين، التي تُعتبر دولة نامية، فرصاً جديدة للاستثمار فيما يُعرف بالاقتصاد الفضي، الذي يركز على تلبية احتياجات كبار السن، بحسب تعبيره.
وأضاف الدكتور الشبشيري: “تستعد الشركات لتلبية احتياجات هذا الجيل المتنامي من كبار السن، حيث أظهرت بعض الشركات في منطقة الخليج، مثل شركة مشاريع الكويت القابضة، رغبتها في تقديم منتجات التقاعد والرعاية، هذه التحولات تتطلب استعداد الدول لمواجهة التحديات المرتبطة بشيخوخة السكان، بما في ذلك الاستثمار في رأس المال البشري والبنية التحتية. من خلال تحسين السياسات، يمكن للدول الاستفادة من الفرص التي توفرها التغيرات الديمغرافية، بما في ذلك الصين، التي ستشكل كبار السن فيها جزءاً مهماً من مستقبل اقتصادها وسوق استهلاكها”.