ليس سراً أن الذهب كان من الأصول المرغوبة منذ قرون.. والآن، في عالم يشهد تصاعد حالة “عدم اليقين الاقتصادي” والتقلبات المالية، يتمسك المستثمرون بالجاذبية الخالدة للمعدن الثمين كملاذ آمن لثرواتهم.
وفي حين تواجه خيارات الاستثمار التقليدية مخاطر متزايدة، يظل هذا الأصل الملموس، المدعوم بسجل حافل من الاستقرار، خياراً استثمارياً موثوقاً به لأولئك الذين يسعون إلى حماية مستقبلهم المالي.
حتى مع كل ما يقدمه الذهب، لا يزال لديه الفرصة للتألق بشكل أكبر.. وإليكم بعض الأسباب التي تجعل المستثمرين يراقبون عن كثب استثمارات الذهب في اقتصاد اليوم.
الأسعار القياسية
تقرير لـ “فوكس بيزنس” سلط الضوء على خمسة أسباب رئيسية؛ أولها “سجل أسعار” الذهب الذي سجل مستويات قياسية أخيراص، وارتفع بأكثر من 27 بالمئة منذ بداية العام وفقًا لإدارة الثروات العالمية في يو بي إس ، حيث يُعتقد بأن خفض أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع الماضي والتوترات الجيوسياسية وقيود العرض كلها عوامل عززت الارتفاع.
وقالت مديرة الاستثمار في الأميركتين لدى يو بي إس، سوليتا مارسيلي:
- نظل الأكثر تفضيلاً للذهب في استراتيجيتنا العالمية، مع هدف يبلغ 2700 دولار أميركي للأونصة بحلول منتصف العام 2025.
- على الرغم من الارتفاع، نعتقد بأن خصائص التحوط في الذهب تظل جذابة.
- إلى جانب الذهب المادي، قد يفكر المستثمرون في التعرض من خلال استراتيجيات منظمة أو صناديق الاستثمار المتداولة أو من خلال أسهم شركات تعدين الذهب.
- المستثمرون غير المعتادين على تقلبات السلع الأساسية الفردية قد يفكرون أيضا في التعرض من خلال استراتيجية تدار بنشاط والتي تسعى إلى تحقيق ألفا على المؤشرات السلبية القابلة للمقارنة.
ورغم أن الأسعار المرتفعة قد تبدو بمثابة عيب، فإنها قد تكون الوقت المناسب للاستفادة من نمو الأسعار المحتمل في المستقبل، بحسب التقرير.
وعلى خلفية ارتفاع أسعار الذهب، غذت البنوك المركزية ارتفاع التكلفة مع استمرارها في الشراء، في تحول واضح بعيدًا عن سندات الخزانة الأميركية.
وذكر تقرير صادر عن شبكة سي بي إس أن إن هذا يساعد على توفير أساس متين لاستدامة أسعار الذهب – وفرصة للمستثمرين للاستفادة من نمو الأسعار في المستقبل.
الذهب كملاذ آمن
السبب الثاني، بحسب التقرير، هو التعامل مع الذهب كأصل ملاذ آمن، فقد عزز الذهب دوره كأصل ملاذ آمن في العام الجاري 2024 بسبب التوترات الجيوسياسية المستمرة في مناطق مثل الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، والتي تستمر في تعزيز حالة عدم اليقين ودفع الطلب على مخزن مستقر للقيمة.
وبحسب بنك غولدمان ساكس، فقد زادت البنوك المركزية من مشترياتها من الذهب منذ فجر الحرب بين روسيا وأوكرانيا في أوائل العام 2022، مما يشير إلى دور المعدن الأصفر كتحوط وسط الاضطرابات الجيوسياسية.
كما أشاد غولدمان ساكس بالذهب لأنه يوفر “قيمة كبيرة” باعتباره “تحوطًا للمحفظة ضد التطورات مثل التعريفات الجمركية، ومخاطر تبعية بنك الاحتياطي الفيدرالي (أي خطر تقويض استقلاليته)، ومخاوف استدامة الديون”.
وذكرت شركة الخدمات المصرفية الاستثمارية في مقال: “إنها السلعة المفضلة لدى استراتيجيينا على المدى القريب (السلعة التي يتوقعون ارتفاعها على المدى القصير)، وهي أيضًا التحوط المفضل لديهم ضد المخاطر الجيوسياسية والمالية”.
وعلى الصعيد المحلي في الولايات المتحدة، أدى خفض أسعار الفائدة الذي أجراه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مؤخراً بمقدار 50 نقطة أساس، والذي هيمن على عناوين الأخبار الأسبوع الماضي، إلى جعل الأصول أكثر جاذبية للمستثمرين من خلال خفض التكلفة البديلة للأصول غير المدرة للعائدات. ويترجم هذا إلى ضعف الدولار مقابل زيادة الاهتمام بالذهب وغيره من الأصول غير المدرة للعائدات، بما في ذلك المعادن النفيسة الأخرى.
ومع توقع المزيد من التخفيضات في أسعار الفائدة قبل نهاية العام، فإن هذا الاهتمام المحتمل بين المستثمرين قد يزداد بشكل أكبر.
التحوط ضد التضخم
السبب الثالث من بين أسباب جاذبية المعدن الأصفر هو “التحوط ضد التضخم، إذ يعتبر الذهب أيضًا بشكل عام “تحوطًا ضد التضخم”، وهو ما يعني أن قيمة السلعة ترتفع مع فقدان العملات الورقية – مثل الدولار الأميركي – لقيمتها.
حدد بنك غولدمان ساكس الذهب باعتباره “أفضل سلعة” لتكون بمثابة “تحوط محتمل ضد التضخم”، وهذا يعني أن الاستثمار في الذهب يعني أنه في حين أن الدولارات في محفظتك قد لا تحمل نفس القوة الشرائية كما قد تكون خلال فترات التضخم المنخفضة، فإن الذهب في محفظتك سيظل أصلا قويا.
وقال كبير الاقتصاديين في يورو باسيفيك كابيتال، بيتر شيف، لشبكة فوكس بيزنس، في وقت سابق من هذا العام: “يرتفع الذهب لأن الدولار واليورو والين والعملات الورقية تفقد قيمتها”.
حماية المحافظ الاستثمارية
رابعاً، يعتبر الذهب على نطاق واسع أداة تنويع قيمة للمستثمرين الذين يأملون في تجنب المخاطر المحتملة لفئات الأصول الأخرى التي تتصرف بشكل مختلف خلال عمليات البيع في السوق أو أوقات عدم الاستقرار الاقتصادي.
على سبيل المثال، قالت شركة ستيت ستريت غلوبال أدفايزرز ، وهي شركة خدمات مالية يقع مقرها الرئيسي في بوسطن، إن المعدن النفيس لديه “القدرة على الحماية من المخاطر القصوى” ويعمل كأداة في “تقليل عمليات سحب المحفظة الاستثمارية وتقلباتها”.
الارتباط المنخفض للذهب مع الأصول الأخرى مثل الأسهم والسندات يعني أن سعره يتحرك بشكل مستقل ، وهذا يعني أنه إذا كان أداء أحد المجالات الأخرى ضعيفا، يمكن للذهب أن يبقى طافيا ويتصرف بشكل وقائي.
وذكر مجلس الذهب العالمي عن دور الذهب باعتباره مكملاً للأسهم و”المحافظ الاستثمارية واسعة النطاق”، أن “الذهب تاريخيًا قدم عوائد وتنويعًا وسيولة. وتعني هذه الخصائص مجتمعة أن الذهب يمكنه تعزيز العوائد المعدلة للمخاطر بشكل ملموس.” كما أنها تحمل فوائد أخرى، بما في ذلك انعدام مخاطر الائتمان.
الندرة
السبب الخامس مرتبط بعامل الندرة، ذلك أن الذهب أيضًا محدود، مما يعني أنه لا يمكن طباعته أو استنساخه إلى ما لا نهاية مثل النقود الورقية. ولا يمكن استخراجه إلا بكميات محدودة، مما يخلق قيودًا دائمة على العرض تساعد في الحفاظ على قيمته . وتضاف عقبة أخرى إلى هذا المزيج، وهي ارتفاع تكاليف الاستخراج.
وتقول شركة أواندا لتداول العملات الأجنبية إنه مع تزايد ندرة رواسب الذهب، يتعين على شركات التعدين أن تبذل المزيد من الجهود لتمويل التكنولوجيا والاستكشاف للحفاظ على استمرار العرض.
وفي الوقت نفسه، يغذي الطلب المتزايد على المعدن الثمين لاستخداماته العديدة ــ المجوهرات والديكور، وحتى الاهتمام المتزايد باستخدامه في الإلكترونيات والأجهزة الطبية ــ هذا الطلب المرتفع على الرغم من الكميات النادرة.
وقال الرئيس التنفيذي لمجموعة “ساوند بلانينج غروب” ديفيد ستريزيوسكي أثناء ظهوره على شبكة “فوكس بيزنس” في يونيو/حزيران: “في الوقت الحالي، لدينا خلل في العرض والطلب”.
وتابع أن “هذه البنوك تشتري الذهب والفضة بمستويات قياسية اليوم”، مضيفا أنه من المتوقع حدوث تباطؤ عالمي في إنتاج المعادن النفيسة، مما يؤدي إلى مزيد من الندرة.
أهم العوامل الرئيسية
الخبير الاقتصادي، علي الإدريسي، أوضح في حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن:
- الذهب كان ولا يزال سلعة تحظى بجاذبية عالية لأسباب اقتصادية وتاريخية متعددة.
- الطلب على الذهب مستمر بشكل قوي لكونه مخزن للقيمة، مما يجعله ملاذًا آمنًا في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية، حيث يلجأ المستثمرون إليه لحماية ثرواتهم من التضخم والانهيارات الاقتصادية.
- الذهب، بفضل تاريخه الطويل كأصل يحتفظ بقيمته، يعزز الثقة لدى المستثمرين كخيار موثوق يعتمدون عليه في أوقات عدم الاستقرار.
- ندرة الذهب تزيد من قيمته بمرور الوقت، فالذهب يُعتبر موردًا طبيعيًا محدودًا وصعب الاستخراج، وهو ما يجعله استثمارًا طويل الأمد موثوقًا.
- كما يتمتع الذهب بميزة الاستقرار النسبي مقارنة بالأصول الأخرى مثل الأسهم أو العملات الرقمية، الأمر الذي يجعله خيارًا أمثل في ظل تقلبات الأسواق.
وأضاف الإدريسي أن الذهب يتميز بكونه أصل غير مرتبط بشكل مباشر بحركة الأسواق المالية الأخرى، فغالبًا ما يتحرك في اتجاه معاكس لتلك الأسواق؛ فعندما تنخفض أسعار الأسهم أو العملات، يميل الذهب إلى الارتفاع، مما يجعله أداة تحوط ممتازة لتنويع المحفظة الاستثمارية. ولا يقتصر الأمر على الجانب الاستثماري فقط، بل إن الاستخدامات الصناعية والزخرفية للذهب، خاصة في صناعات الإلكترونيات والمجوهرات، تسهم في زيادة الطلب عليه.
وتطرق الخبير الاقتصادي إلى العوامل التي تدعم استمرار هذا الاتجاه نحو الذهب، ومنها التضخم العالمي، حيث يؤثر التضخم المتزايد في العديد من البلدان على القوة الشرائية للعملات الورقية، في حين يحتفظ الذهب بقيمته، ما يجعله أداة فعالة لمواجهة التضخم.
كذلك، أكد أن الاضطرابات الجيوسياسية والتوترات الدولية تدفع المستثمرين نحو الذهب باعتباره ملاذًا آمنًا. كما أضاف أن السياسات النقدية المتساهلة التي تتبناها البنوك المركزية، مثل التيسير الكمي، تزيد من مخاوف استقرار العملات الورقية، مما يعزز من جاذبية الذهب كبديل مستقر. وفي ظل التقلبات الحادة التي قد تشهدها الأسواق الأخرى، يظل الذهب خيارًا مفضّلًا للمستثمرين الباحثين عن الاستقرار.
وأوضح الإدريسي أن هذا الطلب المستمر على الذهب قد يؤثر على باقي الأصول، فخلال فترات عدم الاستقرار، من المحتمل أن يخرج رأس المال من الأسواق المالية الأخرى، مثل الأسهم، ويتوجه نحو الذهب، مما قد يؤدي إلى تراجع في أسعار الأسهم. وبالنسبة للعملات الرقمية مثل البيتكوين، فرغم أنها تُعتبر ملاذًا رقميًا، إلا أنها أكثر تقلبًا بكثير من الذهب، وهذا ما يجعل الذهب خيارًا أكثر أمانًا للمستثمرين التقليديين الذين يبحثون عن استثمار آمن وقليل المخاطر.
التوترات الجيوسياسية
خبيرة أسواق المال، حنان رمسيس، أشارت لدى حديثها مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن
- استمرار الأحداث الجيوسياسية السلبية، من تصعيد واغتيالات وحروب في الشرق الأوسط وحول العالم، يجعل من الذهب الملاذ الآمن الأول.
- الدول، مثل الأفراد، قد تواجه سيناريوهات قاتمة بالنسبة للسيولة في ظل هذه الأوضاع، ولهذا السبب نشهد زيادة في احتياطيات الذهب لدى العديد من الدول.
- مع بدء خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأميركية، سيؤدي هذا إلى إضعاف الدولار أمام سلة العملات، وهو ما دفع العديد من المستثمرين، سواء أفراد أو دول، إلى التحول من شراء سندات الخزانة الأميركية إلى الذهب، مما يسهم في دفع أسعار المعدن الأصفر إلى مستويات قياسية جديدة.
كما أضافت أن التحول الكبير نحو الذهب يعزز من الاحتياطيات لدى الدول، ذلك أن الذهب مخزن للقيمة يساعد في مواجهة مخاطر التضخم والحروب المتزايدة، مشيرة إلى أن هذا الاحتياطي يمكن بيعه عند الحاجة لدعم الموازنة العامة.
وأوضحت أن التذبذب الحالي في أسعار النفط نتيجة تفاوت العرض والطلب والضغوط الماثلة في هذا السياق، بجانب دخول لاعبين جدد في السوق، أدى إلى هبوط الأسعار، مما أثر سلبًا على ميزانيات الدول التي تعتمد عليه. وهنا يبرز الذهب كحل يساعد على استقرار اقتصاد تلك الدول.
مخزن قيمة
بلال شعيب، مدير مركز رؤية للدراسات، أوضح لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- هناك العديد من الأسباب التي تجعل الذهب سلعة استراتيجية مطلوبة بقوة، حيث يُعتبر مخزنًا للقيمة يلجأ إليه الناس في كل دورة اقتصادية، التي عادة ما تتراوح مدتها بين سنتين إلى ثلاث سنوات.
- في كل مرة تتعرض الأسواق لمراحل من التقلبات الاقتصادية، نشهد ارتفاعًا في أسعار الذهب، نظرًا لاعتباره ملاذًا آمنًا في وجه الأزمات.
- الاستثمارات البديلة، مثل الأسهم أو السندات أو حتى الأوعية الادخارية عبر البنوك، تتقلب بشكل مستمر، حيث ترتفع وتنخفض حسب الأوضاع الاقتصادية العامة، سواء خلال فترات الكساد أو الرواج. وفي مقابل ذلك، يظل الذهب محافظًا على قيمته ومستقرًا، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية. وهو ما نشهده حاليًا في ظل الأوضاع غير المستقرة، حيث اقترب سعر الذهب عالميًا من مستوى 2700 دولار للأونصة، ومن المتوقع أن يشهد مزيدًا من الارتفاع في بداية العام القادم نتيجة العديد من العوامل السياسية والاقتصادية.
وأضاف شعيب أن الفيدرالي الأميركي بدأ بالتراجع عن سياسة التشديد النقدي والتحول نحو سياسة نقدية تيسيرية بخفض سعر الفائدة بمقدار نصف في المئة، ومن المتوقع أن تستمر هذه السياسة عالميًا. وأرجع شعيب هذا التوجه إلى حالة الركود الاقتصادي التي بدأت تظهر في الأفق بسبب سياسة التشديد السابقة، بالإضافة إلى ارتفاع الدين إلى مستويات غير مسبوقة.
وأشار إلى أن التوترات الجيوسياسية والعسكرية تزيد من جاذبية الذهب كملاذ آمن، في ظل استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد العالمي، حيث تشكل الدولتان نحو 30-35 بالمئة من تجارة الحبوب العالمية. كما أن استخدام روسيا للغاز كورقة ضغط لتعزيز مكاسبها الاقتصادية والسياسية يزيد من حالة عدم الاستقرار في الأسواق. وفي الشرق الأوسط، تزداد دائرة الصراعات والتوترات، من النزاع بين إسرائيل وحماس إلى تهديدات الحوثيين لمضيق باب المندب، مما يؤثر بشكل مباشر على حركة التجارة العالمية. كذلك، تزيد التوترات المرتبطة باليمن وإيران وحزب الله من حالة عدم اليقين في المنطقة، ما ينعكس سلبًا على اقتصادات الدول، بما في ذلك إيرادات قناة السويس.
بناءً على هذه الظروف، أكد شعيب أن الذهب سيظل البديل الآمن والأفضل مقارنة بالاستثمارات الأخرى، متوقعًا استمرار ارتفاع سعره تدريجيًا في المستقبل القريب، كونه الأكثر استقرارًا وسط هذه التحديات الاقتصادية والسياسية.