يعكس هذا التوجه الحاجة المتزايدة إلى تحسين القدرات العسكرية الأوروبية بعيداً عن الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، التي كانت تلعب دورًا محوريًا في حماية القارة من خلال حلف الناتو.
ومع ذلك، تظل هناك تحديات كبيرة تواجه أوروبا في هذا الصدد؛ بدءاً من ضعف التنسيق بين الدول الأوروبية في مجالات الصناعة الدفاعية والتمويل، وصولًا إلى الحاجة الماسة إلى القيادة العسكرية الموحدة.
في هذا السياق، يطرح تساؤل رئيسي: هل يمكن لأوروبا أن تدافع عن نفسها بشكل فعال دون الدعم العسكري الأميركي؟
صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، ذكرت في تحقيق مطول لها تحت عنوان “هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها بدون أميركا؟”، أنه:
- منذ الانتخابات الأميركية، أصبحت الدعوات الأوروبية إلى العمل العسكري المستقل أكثر إلحاحًا.
- الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حذر من أن أوروبا لا ينبغي أن تصبح “حيوانا عشبيا” ضعيفا محاطا بـ”حيوانات آكلة اللحوم”.
- رغم الخطابات الأوروبية المنددة، لم تواكب الأفعال تلك التصريحات.
- هناك قلق متزايد في دول البلطيق وبولندا بشأن أمنها، حيث يُحذر المسؤولون من أن الأوروبيين قد يضطرون إلى تحمل المزيد من العبء الدفاعي.
منذ بدء الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، تزايد التواجد العسكري لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، ووافقت الدول الأعضاء على خطط عسكرية متطورة، بما في ذلك “نموذج القوة الجديدة” الذي يسمح بنقل 100 ألف جندي في أقل من عشرة أيام. ومع ذلك، يظل السؤال: هل يمكن لأوروبا الدفاع عن نفسها دون القدرات العسكرية والقيادة الأميركية؟
التحديات العسكرية الأوروبية
من الناحية العسكرية، تواجه أوروبا تحديات كبيرة؛ فالجيش البريطاني يعاني من قلة التمويل والمعدات، والمخزونات العسكرية الفرنسية ضئيلة، في حين أن الجيش الألماني يواجه صعوبة في تحديث معداته بسبب القيود المالية.
ويُقدر معهد الدراسات الاستراتيجية الدولي أن الوفاء بالتزامات الناتو يتطلب تعزيز الاستعدادات الأوروبية بشكل كبير وإغلاق النواقص في القدرة الدفاعية.
وتتمثل إحدى المشاكل في عدم كفاءة صناعة الدفاع المجزأة في أوروبا. فوفقاً لشركة ماكينزي، تمتلك الولايات المتحدة 32 نوعاً من الأنظمة في 11 فئة رئيسية من أنظمة الأسلحة الرئيسية ــ مثل الطائرات المقاتلة والدبابات والمدمرات ــ في حين تحتفظ أوروبا بـ 172 نوعاً .
هذا الافتقار إلى الحجم يزيد من التكاليف ويحد من قابلية التشغيل المتبادل ويخلق كوابيس لوجستية، حتى مع أشياء بسيطة مثل الذخيرة التي يُفترض أنها قياسية في جميع أنحاء حلف شمال الأطلسي. على سبيل المثال، كان على القوات المسلحة الأوكرانية التعامل مع أكثر من 12 نوعًا مختلفًا من قذائف المدفعية عيار 155 ملم، وغالبًا ما كان عليها ضبط مدافعها لكل إصدار.
اللوجستيات وصناعة الدفاع
ووفق التحقيق، تعد اللوجستيات جزءاً أساسياً من تحديات الدفاع الأوروبي. على سبيل المثال، يُقدر إدوارد سترينجر، المارشال الجوي البريطاني السابق، أن “أمور مثل توفير الذخيرة والنقل والخدمات اللوجستية، هي الأمور التي تبرز عند الحديث عن قوة الدفاع المستقلة.
ولكن بعض ما تقدمه الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي ــ مثل أسطولها من طائرات الشحن من طراز سي 17، التي تكلف الواحدة منها 340 مليون دولار، ويمكنها حمل 75 طناً من المعدات لمسافة تقارب 4500 كيلومتر دون إعادة التزود بالوقود ــ لا يمكن تعويضه تقريبا.
كما تحتل طائرات إف-35 الأميركية الصنع بشكل متزايد مركزا في قلب القوة الجوية القتالية لحلف شمال الأطلسي، ومن المتوقع أن تعمل أكثر من 500 طائرة مقاتلة منها في أوروبا بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، وفقا لتقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
إضافة إلى ذلك، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديًا في صناعة الدفاع المجزأة. فبدلاً من التنسيق بين الدول الأعضاء لتوحيد الصناعات الدفاعية، يعزز التركيز على المستوى الوطني الفروقات في القدرات، مما يزيد من تعقيد العمليات اللوجستية ويجعل من الصعب توفير الأسلحة والذخائر بشكل موحد.
القيادة الأميركية
كما أن غياب القيادة الأميركية في حلف شمال الأطلسي سيكون له تأثير كبير. تاريخيا، كان القائد الأعلى للحلف أميركيًا، ولكن في حال تقليص الدور الأميركي، سيكون من الصعب تحديد القيادة المتفق عليها بين الدول الأوروبية. يشير سترينجر إلى أن “إنهاء القيادة الأميركية قد يتسبب في نزاعات بين الأعضاء الأوروبيين”. ففي حال لم يكن هناك قائد موحد، قد تتصاعد الخلافات بين الدول مثل فرنسا وبولندا، مما يؤثر على التنسيق العسكري.
التمويل والتنسيق الدفاعي
أحد أكبر التحديات التي تواجهها أوروبا هو التمويل. على الرغم من أن الإنفاق الدفاعي الأوروبي قد زاد بنسبة الثلث منذ عام 2022، وتحقق 23 دولة من أصل 32 هدف الإنفاق بنسبة 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، لا تزال هناك صعوبات في تحقيق الأهداف الطموحة.
وزيادة الإنفاق الدفاعي يُنظر إليها على أنها ضرورة لتقليل خطر الصراع في المستقبل، لكن الأزمة المالية العامة وارتفاع مستويات الدين العام تجعل من الصعب تخصيص الأموال لهذا القطاع. من جهة أخرى، تطرح بعض الدول مثل إيطاليا وبولندا فكرة إصدار سندات مشتركة لتمويل الزيادة الدفاعية، لكن ألمانيا وهولندا تعارضان هذا الاقتراح.
النفوذ الأميركي في حلف الناتو
على الرغم من الانتقادات التي وجهها الرئيس الأميركي السابق ترامب إلى أوروبا، قائلاً إن “الأوروبيين لا يدفعون فواتير الدفاع”، يبقى دعم الولايات المتحدة لحلف الناتو أمرًا حيويًا. حتى مع انخفاض عدد الجنود الأميركيين في أوروبا من 90 ألفًا إلى نحو 65 ألفًا، فإن وجود أميركا في الحلف يُعتبر عاملاً حاسمًا في تعزيز القدرة الدفاعية الأوروبية.
أفق السياسة الأميركية
تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ليس الرئيس الأميركي الأول الذي يشكو من عبء الدفاع الأوروبي، حيث كان جون كينيدي قد طرح أسئلة مشابهة حول استدامة النفقات العسكرية الأميركية في أوروبا. ومع ذلك، لم يكن أي رئيس أميركي قد طرح فكرة تقليص الدعم إلى هذه الدرجة، كما فعل ترامب في تصريحاته الأخيرة.
بينما لا يزال من غير الواضح ما الذي سيفعله ترامب إذا عاد إلى البيت الأبيض، يشير الخبراء إلى أن هناك دعمًا قويًا لحلف الناتو في الكونغرس الأميركي، وأن حلف الناتو بدون الولايات المتحدة سيكون غير فعال.
والسؤال هنا: هل يمكن لأوروبا الدفاع عن نفسها بدون أميركا؟ في الوقت الحالي، يظل الجواب “لا” إلى حد كبير. رغم أن أوروبا قد أحرزت بعض التقدم في تعزيز دفاعاتها بعد الحرب في أوكرانيا، إلا أن لديها العديد من التحديات في مجالات مثل الصناعة الدفاعية، التمويل، والقيادة العسكرية المشتركة. كما أن التهديد بتقليص الدعم الأميركي قد يُفضي إلى تعقيد الوضع الأمني في أوروبا، حيث سيتعين عليها بذل المزيد من الجهود لتحقيق الاستقلال الدفاعي الفعلي.
تحديات
خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي، يتحدث لموقع “اقتصادي سكاي نيوز عربية” عن التحديات التي تواجه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في سعيها لتشكيل قوة تدخل موحدة للتدخل السريع، موضحاً أنه على الرغم من المحادثات المستمرة حول إنشاء هذه القوة منذ سنوات، إلا أن التقدم كان بطيئاً، حيث تم الحديث في البداية عن قوة تتكون من 2000 جندي، ثم زادت الأعداد إلى 5000 جندي، لكن لم يتم تحقيق ذلك حتى الآن.
يشير بركات إلى أن هناك انقسامات بين الدول الأعضاء حول مسألة الدفاع. فبينما تفضل دول مثل بولندا والدول شرق الأوروبية الاعتماد على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، تبرز دول مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا أهمية وجود قوة عسكرية أوروبية مستقلة للدفاع عن القارة في حال تعرضها لهجوم خارجي، مثل الهجمات المحتملة من روسيا.
ويلفت إلى أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لم تتمكن حتى الآن من رفع ميزانياتها العسكرية إلى 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي كما طالبت الولايات المتحدة، مما يعكس مشكلة التمويل والقدرات اللوجستية. كما يُشدد على أن دعم الدول الأوروبية لأوكرانيا في الصراع مع روسيا كان مكلفاً، وأن إمدادات الأسلحة لها أثرت على المخزونات الاستراتيجية للدول الأوروبية.
ويوضح أيضاً التحديات اللوجستية والخلافات بين الدول الأوروبية في مجال شراء الأسلحة، بالإضافة إلى الصعوبات في توحيد الأنظمة الدفاعية بين الجيوش المختلفة. كما يُشير بركات إلى أن الولايات المتحدة لن تسمح بفصل أوروبا عسكرياً؛ نظراً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
في النهاية، يبدو أن الدول الأوروبية ستظل مرتبطة بالدعم الدفاعي الأميركي، خاصة في ظل الأزمات الحالية، مما يجعل من الصعب تحقيق استقلالية دفاعية حقيقية.
العباءة الأميركية
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يؤكد مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، أبو بكر الديب، أن أوروبا لا تستطيع في الوقت الحالي الانفصال عن العباءة الأميركية أو تحمل عبء الدفاع عن نفسها في مواجهة التهديدات المتزايدة التي تواجهها، موضحاً أن هذا الوضع يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما وضعت الولايات المتحدة مظلتها العسكرية على أوروبا، وأنشأت قواعد عسكرية في القارة، وخاصة في أوروبا الشرقية.
ويشير الديب إلى أن الدول الكبرى في أوروبا، مثل ألمانيا، تعتمد بشكل كبير على التواجد العسكري الأميركي، مما يجعلها لا تنفق الكثير على تعزيز قدراتها الدفاعية. ومع أن هناك دعوات واسعة لتغييرات جذرية بدأت تظهر في مراكز الأبحاث الأوروبية، إلا أن هذه الآراء لا تزال غير مرحب بها بشكل واسع بين الساسة الأوروبيين.
ويتطرق إلى تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما دعا إلى ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤوليتها الدفاعية وتزيد من إنفاقها العسكري. ولكنه يشير إلى أن هذا الرأي لم يلق قبولاً عاماً، لأن عديداً من الدول الأوروبية تستفيد من الحماية العسكرية الأميركية، مما يمكنها من توجيه مواردها نحو الرفاهية الاجتماعية.
وبحذر الديب من أنه إذا تخلت الولايات المتحدة عن دعمها، فإن أوروبا ستجد نفسها مضطرة لزيادة نفقاتها العسكرية بشكل كبير، في ظل عدم وجود جيوش قوية في معظم الدول الأوروبية باستثناء فرنسا وإنكلترا وإيطاليا. ويشدد على أن الأحداث في أوكرانيا تمثل جرس إنذار كبير لأوروبا، مما يستدعي التفكير في وسائل دفع ذاتية للدفاع عن النفس بعيداً عن الاعتماد على الجانب الأميركي.
ويختتم تصريحاته بالتأكيد على أن فترة ترامب الثانية قد تشكل أيضاً جرس إنذار قوي يدفع الدول الأوروبية نحو زيادة الإنفاق العسكري وتحمل المزيد من المسؤوليات الدفاعية.