مشهدٌ عائلي هادئ لم يلبث أن تمزق بوابل من الرصاص، محولاً الاحتفال إلى ساحة ذعر ودماء. في تلك الدقائق الفاصلة بين الحياة والموت، وحين تجمد الجميع خوفاً، قرر رجل واحد أن يركض عكس الاتجاه.
لم يكن جندياً مدججاً بالسلاح، بل بائع فواكه سورياً يدعى أحمد الأحمد (43 عاماً).
وبدلاً من الهرب، انقضّ بيدين عاريتين على أحد المسلحين، منتزعاً بندقيته، ليتلقى رصاصتين في جسده، مانعاً بذلك مجزرة كانت ستكون أكثر دموية.
“لم يفكر.. تحركت فيه النخوة فقط”
في زاوية من المشهد، كان أحمد، الأب لطفلين، يجسد المعنى الحرفي للبطولة العفوية.
وفقاً لرواية الشرطة وشهود عيان نقلتها وكالات أنباء عالمية (رويترز)، فإن تدخل أحمد أربك المهاجمين وأنقذ حياة الكثيرين في هجوم خلف 16 قتيلاً وعشرات الجرحى.
لم يسأل أحمد عن هوية الضحايا، ولم يلتفت لكونهم يحتفلون بعيد ديني يختلف عنه.
في حديث لوسائل إعلام عربية، لخص أحد أقربائه الدافع بكلمات بسيطة وعميقة: “لم يفكر في الموت.. لم يحتمل رؤية الناس يُقتلون أمامه، فتحركت فيه النخوة”.
من سيدني إلى “النيرب”: الفخر يعبر القارات
سرعان ما عبر الخبر المحيطات ليحط رحاله في مسقط رأسه: قرية النيرب في ريف إدلب. القرية التي اعتادت أن تتصدر الأخبار بقصص القصف والنزوح، استيقظت اليوم على خبر مختلف تماماً.
في أزقة إدلب وعلى منصات التواصل الاجتماعي، تحول “أحمد” إلى حديث الساعة. لم يكن الاحتفاء مجرد إعجاب بشجاعة فردية، بل كان شعوراً جماعياً بـ”الإنصاف”.
السوريون، الذين طالما حوصروا في قوالب نمطية جاهزة كـ”لاجئين” أو “أرقام في نشرات الموت”، وجدوا في أحمد صوتاً يعلن للعالم حقيقتهم: بشر يحملون الحياة للآخرين، حتى وهم مثقلون بجراحهم.
كسر الصورة النمطية: “إنه منا”
شكلت هوية أحمد (لاجئ سوري مسلم) وهوية من أنقذهم (مدنيون يهود وأستراليون) مفارقة قوية كسرت حدة الاستقطاب العالمي.
سياسياً: أشاد مسؤولون أستراليون، بينهم رئيس حكومة نيو ساوث ويلز، بشجاعته التي أبقت “الكثيرين أحياء”، وعالميا، أثنى الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الأحمد وقال إنه “شخص شجاع جدا جدا”.
شعبياً: ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا والعالم العربي بمنشورات الفخر. اعتبر النشطاء أن أحمد قدم “أبلغ رد” على تهم الإرهاب والتطرف التي تُلصق باللاجئين، مثبتاً أن الإنسانية لغة تتجاوز الأديان والحدود.
مطالب بالتكريم: “لأنه رفع رؤوسنا”
وسط حالة الاحتفاء، تصاعدت دعوات شعبية واسعة لتكريم أحمد الأحمد، ليس فقط كبطل أسترالي، بل كرمز سوري وطني. ورغم غياب أي تحرك رسمي سوري معلن حتى اللحظة، إلا أن “التكريم الشعبي” كان جارفاً.
التعليقات التي غزت الصفحات السورية، من “الرادار” إلى الحسابات الشخصية، أجمعت على عبارة واحدة: “السوري وين ما راح يرفع الراس”.
لقد تحولت رصاصات الغدر التي أصابت كتف أحمد وذراعه إلى أوسمة شرف علقها السوريون على صدورهم جميعاً.
في المحصلة، قد تكون أحداث “بوندي” مأساة هزت أستراليا، لكن قصة أحمد الأحمد ستبقى تذكيراً ساطعاً بأن الشجاعة لا دين لها، وأن بائع الفواكه القادم من ريف إدلب، استطاع في لحظة واحدة أن يهزم الكراهية، ويعيد تعريف معنى أن تكون إنساناً.
