يشهد سوق الإسكان الأميركي تحولات متسارعة في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية، ومن أبرز التحديات التي تواجه هذا السوق، ارتفاع أسعار الفائدة على الرهن العقاري، والتي أثرت بشكل مباشر على قدرة العديد من الأميركيين على تملك مساكن. فمع تزايد تكلفة الاقتراض، تراجع الطلب على المنازل، وتباطأت حركة البيع والشراء.
إلا أن الآمال تتجدد مع المؤشرات الأولية لانخفاض أسعار الفائدة على الرهن العقاري. فهل سيؤدي هذا التراجع إلى تحفيز تعافي السوق، وهل ستنخفض أسعار المنازل المرتفعة بسبب هذا التغير؟ أم أن هناك عوامل أخرى تعيق التعافي الكامل للسوق؟
إن أسعار الفائدة على الرهن العقاري عند أدنى مستوى لها منذ أكثر من عام، لكن بالنسبة لملايين الأميركيين، يتطلب الأمر أكثر من ذلك بكثير لجعل تملك المنزل ميسوراً، بعد أن باتوا خارج المنافسة، بل وأصبح شراء منزل أقل قدرة على التحقق من أي وقت مضى، بحسب تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وعلى الرغم من الانخفاض الأخير، فمن غير المرجح أن تعود أسعار الفائدة على الرهن العقاري إلى أي مستوى قريب من المستويات التي كانت عليها قبل أن يبدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة في أوائل عام 2022، وقد لا تتحرك بما يكفي لإحداث فرق كبير قريباً، مما يترك مشتري المنازل يتعاملون مع أسعار سكنية قياسية، وعرض محدود، ومخاوف متجددة من الركود.
وظل متوسط السعر على الرهن العقاري القياسي لمدة 30 عاماً ثابتاً بشكل أساسي هذا الأسبوع، عند 6.5 بالمئة، بعد أن سجل الأسبوع الماضي أكبر انخفاضاً له على مدى العام، هذا المعدل أقل بنسبة مئوية واحدة عن ذروته العام الماضي عند حوالي 8 بالمئة.
وعلق الممولون العقاريون آمالاً على انخفاض الأسعار لإعادة مشتري وبائعي المنازل إلى السوق بعد أن هبطت مبيعات المنازل الأميركية العام الماضي إلى أدنى مستوى لها منذ عقود.
وذكرت الصحيفة الأميركية أن جوردان شوارتز، البالغ من العمر 30 عاماً، بدأ دراسة القانون في عام 2020 على أمل أن يتمكن من شراء منزل في ضواحي شيكاغو عند تخرجه، لكن بعد ثمانية أشهر من عمله الأول كمحامي شركات، تخلى هو وزوجته الحامل عن تلك الخطة الآن وقررا الاستئجار ويأملا في الشراء يوماًما، لكن الانخفاض الأخير في الأسعار لم يكن كافياً وقال شوارتز: “الحسابات لا تزال غير منطقية”.
وتوقعت فاني ماي وفردي ماك الشهر الماضي أن تنخفض أسعار الرهن العقاري إلى أقل من 6.5 بالمئة بحلول نهاية العام المقبل. وتوقع اتحاد الممولين العقاريين أن تنخفض بشكل طفيف إلى حوالي 6 بالمئة، وقد تنخفض هذه الأرقام، الآن بعد أن أصبحت التوقعات تشير إلى أن الفيدرالي سيخفض حوالي نقطة مئوية كاملة بحلول نهاية العام، لكن ربما يكون قد حدث الكثير من الحركة المدفوعة بتوقعات خفض أسعار الفائدة في سبتمبر.
دور أسعار الرهن في تحديد توجهات سوق الإسكان
وفي حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري: “تلعب أسعار الرهن العقاري دوراً أساسياً في تحديد توجهات سوق الإسكان الأميركي، وتُعَد القروض العقارية من أكبر الفئات في سوق الائتمان الأميركي، حيث تقدر قيمتها بنحو 12.7 تريليون دولار، وهو ما يمثل نحو 60 بالمئة من إجمالي الائتمان في البلاد”.
وأضاف: “عندما تنخفض أسعار الرهن العقاري، كما شهدنا في الآونة الأخيرة، تنخفض تكلفة الاقتراض للأسر والمستثمرين، وهذا الانخفاض يجعل شراء المنازل أكثر جاذبية، مما يعزز الطلب على العقارات. وعلى سبيل المثال، انخفض متوسط سعر الرهن العقاري لمدة 30 عاماً إلى 6.92 بالمئة في يونيو الماضي مقارنة مع 7.17 بالمئة في الشهر الذي سبقه، وهذا التراجع ساهم في زيادة النشاط العقاري، حيث ارتفعت أنشطة الرهن العقاري 16.8بالمئة على أساس شهري بحسب جمعية مصرفيي الرهن العقاري، محققة أعلى مستوى منذ يناير 2023”.
كما استحوذ نشاط إعادة التمويل على 48.6 بالمئة من إجمالي الطلبات، خلال الأسبوع المنتهي في التاسع من أغسطس الجاري، بزيادة عن 41.7 بالمئة في الأسبوع السابق، ومع ذلك، فإن تأثير انخفاض أسعار الرهن العقاري ليس كاملاً ويعتمد على عوامل أخرى مثل قوة الاقتصاد الكلي، ومعدلات التوظيف، وثقة المستهلكين، بحسب تعبيره.
ويشير الدكتور الشبشيري إلى أنه رغم الفوائد المحتملة، فإن تأثير انخفاض أسعار الرهن العقاري يعتمد على عوامل أخرى مثل أسعار المنازل والمخزون المتاح، وقال: “في فبراير 2024، ارتفعت أسعار المنازل بنسبة 7.0 ىالمئة على أساس سنوي، مما يحد من تأثير انخفاض معدلات الرهن العقاري. كما أن المخزون الضيق يواصل الضغط على السوق، حيث بلغ معدل ملكية المنازل 65.6 بالمئة في الربع الأول من 2024، وهو انخفاض طفيف من 65.7% بالمئة في الربع السابق.
التحفيز يجب أن يترافق مع استقرار اقتصادي جيد ومعدلات توظيف قوية
ولفت الخبير الاقتصادي الشبشيري إلى أن هناك دراسات عديدة تدعم فكرة أن انخفاض أسعار الرهن العقاري يمكن أن يكون له تأثير تحفيزي ملحوظ على سوق الإسكان. ومنها دراسة بعنوان “تأثير تغيرات أسعار الفائدة على قيمة الرهون العقارية” والتي تناولت عينة من 4,000 رهن عقاري في كاليفورنيا بين عامي 1975 و1982، وجدت أن زيادة أسعار الفائدة من 10 إلى 15بالمئة قد تؤدي إلى خسارة بنسبة 23 بالمئة في القيمة الاقتصادية للرهون ذات الفائدة الثابتة عند بيع العقار، و28 بالمئة للرهون القابلة للتحويل. هذا يشير إلى أن زيادة الفائدة يمكن أن تقلل من احتمالية سداد القروض مبكراً، مما يطيل مدة السداد.
وأكد في ختام حديثه أنه لتحقيق تأثير تحفيزي فعّال لأسعار الرهن العقاري على سوق الإسكان يجب أن يترافق مع استقرار اقتصادي جيد ومعدلات توظيف قوية.
القدرة على تحمل التكاليف تُقيّد سوق الإسكان
بدوره، قال الخبير الاقتصادي والمالي، الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons” علي حمودي: “سجلت أسعار المساكن في الولايات المتحدة مكسباً سنوياً بنسبة 5.9 بالمئة لشهر مايو الماضي، بانخفاض عن مكسب سنوي بنسبة 6.4 بالمئة في أبريل، ومع ذلك، حتى مع كون هذا المكسب السنوي يمثل تباطؤاً، إلا أن المؤشر لا يزال يكسر أعلى مستوى قياسي في الشهر السابق، مما يشير إلى أن أسعار المساكن لا تزال بعيدة عن متناول العديد من مشتري المساكن في الولايات المتحدة”.
ومن هنا يرى حمودي أن القدرة على تحمل التكاليف هي القيد الرئيسي في سوق الإسكان حالياً، مرجحاً أن السوق ستتحرك لتصبح أكثر توازناً في النصف الثاني من العام، وأضاف: “على الرغم من استمرار عقبات القدرة على تحمل التكاليف بالنسبة للمشترين، تشير مؤشرات أخرى إلى أن السوق تتجه نحو المشترين، ويأمل مشتري المساكن الجدد أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أخيراً سعر الفائدة في سبتمبر المقبل، حيث يتجه التضخم نحو هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 بالمئة بعد أن وصل حالياً إلى 2.9 بالمئة”.
وأوضح أن أسعار الرهن العقاري تتبع بشكل غير مباشر سعر الفائدة القياسي هذا الذي تستخدمه البنوك كدليل للإقراض. مع ارتفاع معدل الفائدة الفيدرالية إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من عقدين من الزمان، تأثرت أسعار الرهن العقاري – والمقترضون – بالتأثير الإضافي على قدرتهم على تحمل تكاليف الرهن العقاري لشراء منزل جديد.
توقعات بتباطؤ نمو أسعار المساكن
ولذلك، يحجم العديد من المشترين عن القفز إلى سوق الإسكان، على أمل رؤية أسعار رهن عقاري أقل أو أسعار مساكن أقل في وقت لاحق من هذا العام، بحسب حمودي، الذي توقع تباطؤ نمو أسعار المساكن في الولايات المتحدة بشكل أكبر في الأشهر المقبلة، لأن المخزون الضيق من المساكن المعروضة للبيع والقدرة على تحمل التكاليف الممتدة لا تزال تشكل تحدياً كبيراً”.
لكن سوق الإسكان – مثل العديد من الأسواق الأخرى – يكاد يكون من المستحيل تحديد توقيت تباطؤه أو ارتفاعه. ويظل أفضل وقت لمشتري المنازل هو عندما يجدون منزلاً يعجبهم، ويلبي احتياجات أسرهم الحالية والمتوقعة، ويستطيعون تحمل أقساط الرهن العقاري الخاصة به، طبقاً بما قاله الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons” حمودي.
وبالعودة إلى تقرير صحيفة “وول ستريت جورنال”، فقد ذكر أن المخاوف بشأن الاقتصاد غير المستقر أدت إلى جعل التعافي المحتمل للإسكان أكثر هشاشة. من المتوقع أن يخفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بنسبة تصل إلى نصف نقطة مئوية الشهر المقبل. لكن التخفيضات الأسرع من ذلك من شأنها أن تشير على الأرجح إلى حدوث تباطؤ من شأنه أن يترك عدداً أقل من الأميركيين في السوق لشراء وبيع المنازل.
وقال ريك بالاسيو جونيور، مدير الأبحاث في جون بيرنز ريسيرش آند كونسالتينغ: “يجب أن يكون ذلك إيجابياً للإسكان، طالما أننا لا ندخل في ركود”.
بدأت مخاوف الركود بالفعل في تخويف بعض المقرضين العقاريين. في يونايتد هوم لونز، ومقرها ويسترن سبرينجز، إلينوي، ارتفعت أحجام الرهن العقاري بنحو 20 بالمئة هذا العام مقارنة بنفس الفترة من عام 2023، على الرغم من أنها لا تزال منخفضة “بشكل كبير” عن عام 2021.
وقال مايك دولّا، رئيس يونايتد هوم لونز، إنه يعتقد أن أسوأ ما في تباطؤ سوق الإسكان “وراءنا”، وبدأت الشركة في توظيف بعض الأشخاص هذا الصيف بعد تجميد لأكثر من عامين. لكنها لم تزيد بشكل كامل بالنظر إلى احتمال حدوث تراجع في الاقتصاد.
وأضاف دولّا: “أدى الركود المحتمل إلى تقليل بعض هذه الحماسة. لقد احترق الناس كثيراً على مدار العامين ونصف الماضيين، وهم متفائلون بحذر”.
وحتى إذا ثبت أن هذه المخاوف مبالغ فيها، فستحتاج إلى تحولات كبيرة في السوق لتحريك الإبرة على مقياس قدرة تحمل تكلفة المنزل.
ولم يكن هناك ما يكفي من المنازل المعروضة للبيع في السنوات الأخيرة، مما حافظ على الأسعار حول مستويات قياسية. ارتفع العرض مؤخراً، لكنه لا يزال أقل بكثير من المتوسطات التاريخية. ارتفعت تكاليف ملكية المنزل الأخرى، من التأمين إلى الضرائب والصيانة، بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
وذكر التقرير أن قوى السوق الأخرى قد تقدم بعض الراحة للمقترضين، حيث بدأ الفارق بين أسعار الرهن العقاري وعائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات في الضيق، على الرغم من أنه لا يزال أعلى من المعايير التاريخية. إذا استمر هذا الفارق في الانكماش، فقد يؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة على أصحاب المنازل.