في معركة شرسة تدور رحاها في الظلال، تتنافس القوى العالمية على صدارة المشهد التكنولوجي، وتشكل الصين بطموحاتها الواسعة تحدياً لهيمنة وادي السيليكون، فباستخدام حزمة مغرية من العروض والفرص، تسعى بكين إلى استقطاب أبرز العقول المبدعة من الغرب، في محاولة لتحويل مسار التاريخ التكنولوجي.
هل تنجح الصين في خطف المواهب النادرة وسحب البساط من تحت أقدام وادي السيليكون؟ أم أن وادي السيليكون سيظل المعقل الذي لا يقهر للابتكار والإبداع؟ هذا السؤال المحوري يطرح نفسه بقوة في ظل المنافسة بين الاقتصادات المتقدمة وخصوصاً بين أكبر اقتصادين في العالم، مما يثير تساؤلات حول مستقبل التكنولوجيا والاقتصاد العالمي.
ونظراً لأن الحكومات الغربية تجعل من الصعب على الصين الوصول إلى التكنولوجيات الحساسة – وهو اتجاه من المتوقع أن يستمر تحت إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب – تحاول العديد من الشركات الصينية المضي قدماً من خلال إغراء أفضل المهندسين في مجالات مثل أشباه الموصلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي، بحسب تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية بعنوان “الصين تستقطب المواهب التقنية بعروض عمل مغرية.. والغرب في حالة ذعر”.
وأوضح التقرير أن “الشركات الصينية تركز على عدة مراكز تكنولوجية، بما في ذلك تايوان وأجزاء من أوروبا وسيليكون فالي. ويخفي البعض أصولهم الصينية عن طريق تشكيل مشاريع محلية توظف الموظفين لتجنب لفت انتباه المسؤولين المحليين، وهذا يدفع المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا، الذين يعتبر الكثير منهم التوظيف نشاطاً تجارياً عادياً لا ينبغي تقييده، إلى مواجهة مسألة ما إذا كانوا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لمراقبة هذه الممارسة”.
معركة استقطاب المواهب بين الصين والغرب
وأشار التقرير إلى أن إدارة شركة ” Zeiss SMT” المتخصصة في صناعة مكونات لا غنى عنها لبناء أقوى أشباه الموصلات في العالم، تلقت أخباراً مقلقة في الخريف الماضي بأن هواوي تكنولوجيز الشركة الصينية للتكنولوجيا حاولت، استقطاب موظفيها، حيث تلقى الموظفون الذين لديهم إمكانية الوصول إلى المعرفة الحساسة لشركة Zeiss رسائل على “لينكد إن” ومكالمات هاتفية من ممثلي هواوي، عرضوا عليهم رواتب تصل إلى ثلاثة أضعاف رواتبهم للانضمام إلى الشركة الصينية.
هذا الامر أثار تحقيقاً من قبل مسؤولي المخابرات الألمانية، الذين أبدوا خشيتهم من أنه قد يوفر ثغرة لهواوي للوصول إلى بعض أكثر الملكية الفكرية تطوراً في العالم. فكانت هذه أحدث علامة على أن استقطاب المواهب أصبح جبهة حاسمة في المعركة بين الصين والغرب من أجل التفوق التكنولوجي، طبقاً لما قالته الصحيفة الأميركية.
وقالت تايوان، التي لديها بالفعل قواعد صارمة بشأن التوظيف الصيني، في سبتمبر أنها شنت حملة قمع، متهمة ثماني شركات تكنولوجيا صينية رئيسية باستقطاب المواهب من الجزيرة بشكل غير قانوني، مما يهدد القدرة التنافسية لتايوان، في حين تشدد السلطات الكورية الجنوبية العقوبات على الأفراد الذين ينقلون التكنولوجيات الحساسة بشكل غير قانوني إلى دول أجنبية مثل الصين،
أما الولايات المتحدة وأوروبا لا تزالان مفتوحتين إلى حد كبير أمام التوظيف من قبل معظم الشركات الصينية. لكن مسؤولي المخابرات الأوروبية يقولون إنهم يراقبون بقلق محاولات الأطراف المرتبطة بالصين لاستقطاب الخبراء من شركات التكنولوجيا الفائقة في القارة. وقالت وكالات المخابرات الأميركية في أحدث تقييم للتهديدات إنهم يعتقدون أن الصين تحاول استخدام تجنيد المواهب كأحد السبل لتصبح قوة عظمى في العلوم والتكنولوجيا.
وتعتبر الصين أن التوظيف أولوية، خاصة بالنسبة للتكنولوجيات التنافسية مثل الذكاء الاصطناعي، حيث دعت خطة حكومية لتطوير الذكاء الاصطناعي في عام 2017 إلى جذب “ألمع” المواهب، بما في ذلك “أبرز العلماء الدوليين” في مجالات مثل التعلم الآلي والقيادة الآلية والروبوتات الذكية.
الجمع بين ميزتي التكلفة والابتكار
في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي، أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق: “احتلت الصين المرتبة الخامسة في قائمة العشرين اقتصاداً الأكثر ابتكاراً في العالم، وفقاً لتصنيف مؤشر الابتكار ومن الملاحظ أن الصين تضخ بقوة المزيد من الاختراعات والابتكارات في عروقها، خلال محاولتها السيطرة على كل المنتجات والابتكارات، وكل ما يتعلق بالصناعة على مستوى العالم، الأمر الذي يثير قلق الولايات المتحدة والغرب”.
ولكن إذا تمكنت الصين من الجمع بين ميزة التكلفة وميزة الابتكار، أو على الأقل تحقيق التكافؤ في الابتكار، فإن التحدي الذي تواجهه الصناعات المبتكرة في الدول الغربية سوف يصبح أكثر أهمية. وعلى هذا فإن السؤال الرئيسي الذي يواجه هذه الدول هو إلى أي مدى أصبحت الصين أو ستصبح قريباً رائدة في الابتكار، أو على الأقل على قدم المساواة مع قادة الابتكار. وإذا تمكنت الصين من أن تصبح رائدة في الابتكار، فإن هذا التطور يشكل تهديداً كبيراً للدول الغربية وشركاتها لأن الصين سوف تكون قادرة على الجمع بين الجودة والابتكار والسعر، بحسب تعبيره.
وفي ضوء ما سبق نطرح السؤال التالي هل تسحب الصين البساط من تحت أقدام وادي السيليكون؟، الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي يجيب بقوله: “تشبه الصين إلى حد كبير ما كانت عليه النمور الآسيوية قبل 20 عاماً، إلا أنها في هذه الحالة ليست نمراً، بل تنيناً ينفث النار على المنشطات التي توفرها له الحكومة، وأظهرت أنها قادرة على أن تكون منتجاً عالمياً قادراً على المنافسة للسلع المعقدة تكنولوجياً، وحققت خطوات سريعة في الصناعات الناشئة مثل الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية. ونمت حصة الصين عالمياً من الصناعات المتقدمة على مدى السنوات الـ 25 الماضية. وما يؤكد ذلك ما نشهده من تحولاًت هيكلية تجري في الاقتصاد من الصناعات منخفضة التكلفة إلى صناعات كثيفة المعرفة، والابتكار هو المفتاح لنجاح هذا التحول”.
خطوات جذب المواهب
وأوضح الشناوي أنه في إطار سعي الصين إلى سحب البساط من تحت أقدام وادي السيليكون فقد قامت بالآتي:
- سعت شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة الى تكثيف البحث عن المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون وسط القيود الأميركية.
- قامت العديد من شركات التكنولوجيا الصينية بالعمل على تسريع الجهود الرامية إلى إنشاء فرق بحث وتطوير الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون.
- تعرض الشركات الصناعية حوافز مربحة لجذب أفضل المواهب الأميركية، بهدف تعزيز أسس البحث والتطوير الخاصة بهم قبل فرض قيود أكثر صرامة محتملة على الشركات الصينية في ظل إدارة ترامب.
- توسعت شركات صينية في كاليفورنيا – شركة على بابا وبايت دانس وميتوان- حيث كانت تبحث عن محترفين ذوي خبرة من المنافسين الأميركيين بهدف اللحاق بالسباق التنافسي لتطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي.
- في إطار تجاوز القيود الأميركية التي تحظر تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة من شركة NVIDIA إلى الشركات الصينية فقد استحوذت شركات التكنولوجيا الصينية أو الشركات التابعة لها على شرائح الذكاء الاصطناعي المتطورة تحت اسم مركز البيانات الخاص بها في الولايات المتحدة. حيث أن هذه الرقائق ضرورية لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وعدم القدرة على الوصول إليها يشكل عقبة رئيسية أمام البحث والتطوير.
- تقديم إعانات حكومية ضخمة أو أموالاً أخرى تسمح للشركات بتقديم رواتب باهظة لنخبة من المهوسين بالتكنولوجيا من الأجانب لا يستطيع أي شخص آخر أن يضاهيها.
- لا تقتصر العروض الناجحة على حرمان الشركات التكنولوجية الأميركية والأوروبية والتايوانية من بعض أفضل عمالها. بل قد تحرمها أيضاً من أسرار الملكية الفكرية التي ينقلها موظفوها السابقون إلى رؤسائهم الجدد ــ وهو ما يدفع بكين إلى بذل الجهود لتسريع قطاع التكنولوجيا المتقدمة في البلاد في هذه العملية.
ولما كانت الجهود الصينية لجذب العاملين الرئيسيين في مجال التكنولوجيا من الخارج تمثل ظاهرياً نشاطاً تجارياً كلاسيكياً، يقوم على المبادئ الرأسمالية المتمثلة في دفع أجور للموظفين القيمين بما يتحمله السوق، لذلك لم تتمكن الحكومات في أوروبا وأميركا من اتخاذ الكثير من الإجراءات القانونية أو العمالية الرسمية ضد هذه الممارسة، لكن كثف وادي السيليكون عمليات فحص الموظفين بسبب تهديد التجسس الصيني، إذ ذكرت وكالة الاستخبارات الأميركية إن تجنيد الصين للعلماء الأجانب، وسرقتها للملكية الفكرية الأميركية، وعمليات الاستحواذ المستهدفة للشركات الأميركية تشكل تهديداً غير مسبوق للقاعدة الصناعية الأميركية، طبقاً لما قاله أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق.
وختم بقوله: “إذا واجهت الصين صعوبة في التحول إلى دولة مبتكرة وظلت إلى حد كبير مجرد مقلدة، فإن التهديد الذي تواجهه أميركا وغيرها من اقتصادات التكنولوجيا المتحالفة معها سيكون أقل. وفي هذه الحالة، ما دامت أميركا قادرة على الابتكار بمعدل قوي فمن المرجح أن تحافظ على الصدارة في التكنولوجيات المتقدمة، حتى لو سارعت الصين إلى نسخ الابتكارات الأجنبية. ولكن إذا كانت الصين قادرة على تطوير ابتكارات جديدة قبل أميركا والدول المتحالفة معها، أو في نفس الوقت فإن قدرتها على إزاحة الشركات والقدرات التكنولوجية الأميركية وحلفائها تصبح أكثر احتمالاً، وخاصة لأن الصين تستفيد من اقتصاديات الحجم الكبيرة وتركيز الحكومة على أفضل سياسة علمية وتكنولوجية عالمية من أجل تعزيز القدرة التنافسية.
الاعتماد على الحوافز المالية
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي، في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “التفوق التكنولوجي العالمي يتطلب استراتيجية استقطاب المواهب، والصين تستهدف بشكل مكثف العقول الرائدة في مجالات أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من المجالات المتقدمة. جهود الصين في جذب المواهب الغربية هائلة وتعتمد بدرجة كبيرة على الحوافز المالية. والشركات الصينية، مدعومة غالباً من الحكومة تعرض رواتب أعلى بكثير من تلك التي في الأسواق الغربية بما يصل أحيانا إلى أضعاف الرواتب لجذب الموظفين، فمن الأهداف الرئيسية للصين جذب مواهب في صناعة الرقائق والذكاء الاصطناعي والروبوتات”.
وذكر أن الشركات الصينية تقوم بالتخفي من خلال إنشاء شركات محلية أو استخدام وسطاء في مناطق مثل تايوان وأوروبا كما تلجأ الشركات الصينية أحياناً إلى التوظيف عبر وسطاء مقيمين في سنغافورة وهونغ كونغ أو تتعاون مع كيانات محلية للحد من التدقيق وذلك للتغلب على قيود المقاطعة وحظر نقل التكنولوجيا التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تحديات
لكن، أكبر التحديات التي تواجهها الشركات الصينية هي التردد من قبل أصحاب المواهب بسبب مخاوف تتعلق بسمعتهم، وعدم التأقلم مع الثقافة، والتخوف من الاتهامات بسرقة الملكية الفكرية أو خرق قوانين المقاطعة، بحسب القمزي، الذي أشار إلى أن دولاً مثل تايوان وكوريا الجنوبية فرضت عقوبات صارمة على تسريب التقنيات الحساسة، إذ تفرض تايوان، على سبيل المثال، عقوبة تصل إلى 12 عاماً من السجن على المخالفين. والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقومان بعمليات فحص أكثر صرامة لعمليات الاستحواذ والشراكات الصينية.
ومع ذلك، يوضح الخبير الاقتصادي القمزي أن التحدي الحقيقي يتمثل في أن الصين، حتى لو نجحت في استقطاب المواهب، فإنها لا تزال تواجه قيوداً على تصدير المعدات الحيوية، مثل آلات الطباعة الحجرية EUV من شركة ASML، والتي تُعد أساسية لإنتاج الرقائق المتقدمة، كما أن وكالات الاستخبارات الغربية تراقب محاولات استقطاب المواهب عن كثب، وتتدخل بالتحقيق لثني المرشحين عن قبول الوظائف.
وفي العموم، نجحت استراتيجية استقطاب المواهب الصينية في تسريع تطورها التكنولوجي بشكل واضح. وتبرز أمثلة ناجحة مثل تصنيع شركة SMIC شريحة بسبعة نانومتر كدليل على المكاسب المحتملة لهذه الجهود. ومع ذلك، يحتفظ الغرب بعدة مزايا تجعل من الصعب على الصين قلب الموازين تماماً، التكنولوجيا الغربية، خاصة الأميركية، متكاملة بعمق مع مراكز الابتكار، ورأس المال الاستثماري، والشبكات التعاونية التي يصعب تكرارها.