هذه السياسات الهادفة لتصحيح الميزان التجاري لصالح الولايات المتحدة، تثير قلقًا واسعًا بشأن انعكاساتها على الاقتصاد الأميركي نفسه، وحتى على النظام التجاري العالمي بأسره.
من خلال ما عُرف بـ”حرب الرسوم الجمركية”، يسعى ترامب إلى استهداف الصين وكندا والمكسيك، في محاولة لإعادة هيكلة علاقات بلاده التجارية.
وبحسب محللين، فإنه من شأن هذا التوجه الحمائي إطلاق موجة من الردود الانتقامية، بما هدد الاستقرار الاقتصادي ويربك الأسواق العالمية، متسبّبًا في تصعيد التوترات بين أكبر القوى الاقتصادية.
حرب تجارية
ووفق تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية، فإنه بحسب خبراء التجارة والاقتصاد، فقد هيأ تهديد الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، بفرض رسوم جمركية باهظة على السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة، المسرح إلى حرب تجارية عالمية مريرة، مع تحذير المستهلكين والشركات من ضرورة الاستعداد لتكاليف باهظة.
وكان ترامب قد أعلن مساء الاثنين الماضي، اعتزامه فرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك والصين على جميع صادراتهم إلى الولايات المتحدة؛ حتى تعمل هذه الدول على الحد من الهجرة وتدفق المخدرات إلى البلاد، على حد وصفه.
وبينما سارع المسؤولون في الدول الثلاث إلى الرد، توقع المدير السابق لمنظمة التجارة العالمية، كيث روكويل، أن تؤدي خطوة ترامب إلى إشعال فتيل حرب تجارية.
من جانبها، فإن الصين أشارت إلى أن كلا الجانبين سيخسران من تصعيد التوترات الاقتصادية. وقد كتب المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن، على موقع X، ليو بينغيو: “لن يفوز أحد في حرب تجارية أو حرب تعريفات جمركية”.
وبعد ساعات من تصريحات ترامب، نشر خبراء الاقتصاد في آي إن جي بحثًا يقدر أن مقترحاته الأوسع نطاقًا في حملته الانتخابية بشأن التجارة – بما في ذلك التعريفة الجمركية العالمية بنسبة تتراوح بين 10 و 20 بالمئة على جميع السلع المستوردة من الخارج، و 60 بالمئة تعريفة جمركية على جميع السلع من الصين – قد تكلف كل مستهلك أميركي ما يصل إلى 2400 دولار سنويًا.
وقال جيمس نايتلي من آي إن جي: “إن هذه الزيادة المحتملة في تكاليف المستهلك والتضخم قد يكون لها آثار اقتصادية واسعة النطاق، وخاصة في اقتصاد يمثل فيه الإنفاق الاستهلاكي 70 بالمئة من إجمالي النشاط”.
لكن وفق تقرير الغارديان، فإنه:
- من غير الواضح ما إذا كان ترامب، الذي وصف “الرسوم الجمركية” بأنها “أجمل كلمة في القاموس”، سوف ينفذ هذه الخطة؛ ذلك أن الرسوم الجمركية (الضرائب التي تدفعها الشركات التي تستورد السلع الأجنبية) لا تحظى بشعبية بين الناخبين، حتى بين ناخبي ترامب.
- أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة هاريس لصالح الصحيفة أن 69 بالمئة من الناس يعتقدون بأن الأسعار سوف تزيد تبعاً لذلك.
عصر جديد من الحمائية التجارية
وقال الرئيس السابق لقسم الصين في صندوق النقد الدولي، إسوار براساد:
- “إن تصريحات ترامب تهدد بوضوح بفجر عصر جديد من الحمائية التجارية الأميركية التي ستجتاح عديداً من شركاء الولايات المتحدة التجاريين”.
- “ستكون لهذه التعريفات الجمركية تأثير مدمر على الولايات المتحدة وكذلك التجارة الدولية، حيث تتنافس البلدان في جميع أنحاء العالم لتخفيف وطأة التعريفات الجمركية الأميركية على اقتصاداتها ومحاولة إيجاد طرق للتهرب من التعريفات الجمركية”.
خلال الحملة الانتخابية، زعم ترامب وحلفاؤه أن مثل هذه التدابير من شأنها أن تساعد في تعزيز الاقتصاد الأميركي و”جعل أميركا عظيمة مرة أخرى”. لكن العديد من خبراء الاقتصاد تبنوا وجهة نظر مختلفة، محذرين من أن فرض رسوم جمركية شاملة من شأنه أن يزيد من أسعار السلع للمستهلكين الأميركيين، ويخاطر بدفع دول أخرى إلى اتخاذ إجراءات انتقامية، مما يلحق الضرر بالشركات الأميركية التي تصدر السلع إلى العالم.
ولكن في تصريحاته يوم الثلاثاء، لم يركز ترامب على الفوائد الاقتصادية التي زعم أن الرسوم الجمركية ستجلبها. بل ألقى باللوم على المكسيك وكندا بسبب “الحدود المفتوحة السخيفة” التي زعم أنها تسببت في أزمة الهجرة، والصين بسبب “الكميات الهائلة من المخدرات، وخاصة الفنتانيل” التي تصل إلى الولايات المتحدة – وتعهد بفرض رسوم جمركية على هذه البلدان حتى تعالج مخاوفه.
تخفيف من حدة المخاطر
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة ACY، الدكتور نضال الشعار لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن كل العوامل الموضوعية التي نشهدها اليوم تشير إلى احتمال كبير لاندلاع حرب تجارية دولية قد تتطور إلى صراع سياسي. ومع ذلك، هناك أيضاً مؤشرات داخلية وخارجية في الدول المعنية تدل على إمكانية التوصل إلى حلول.
ويستطرد: “الصراع القائم بين روسيا وأوكرانيا يعتبر عاملاً أساسياً في الوضع الحالي.. هناك احتمال أن يقوم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، بمساعٍ معينة للتوسط بين بوتين وأوكرانيا لإيجاد حل لهذا النزاع، نظراً لتأثيراته الكبيرة على التجارة العالمية وأسعار النفط وموضوع العقوبات.. أما فيما يتعلق بالصراع بين تايوان والصين، فإن الوضع يبدو معقداً، لكن هناك مساعي دولية لتخفيف حدة هذا الصراع”.
ويضيف الشعار: من المهم جداً ملاحظة أن السياسات الحمائية التي يتبناها ترامب تجاه الاتحاد الأوروبي والصين، علاوة على كندا والمكسيك تثير القلق، ومع ذلك فإن “العلاقة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك هي علاقة وثيقة للغاية، وبالتالي من غير المرجح أن تتطور إلى مواجهة عدائية”.
بينما فيما يخص العلاقة مع الصين، يوضح أن “هذه العلاقة أكثر تعقيداً”:
- لكن توقعنا ردود فعل متوازنة من الصين تجاه العقوبات الأميركية، حيث لاحظنا أنها لم تتخذ خطوات انتقامية متطرفة.
- الصين دائماً تسعى لإيجاد حلول، وهو ما يتجلى في تحول تجارتها إلى دول مثل فيتنام وكوريا والفلبين والهند.
- في ذات الوقت، كان رد الصين على التهديدات الأميركية عقلانياً، حيث أكدت أن الزيادة في التعريفات الجمركية لن تكون في صالح أي بلد، مما يفتح المجال لمفاوضات محتملة بين البلدين.
- يتعين الأخذ في الاعتبار أيضاً التأثيرات المحتملة على الاتحاد الأوروبي في حال فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الصين؛ فقد تسعى بكين إلى توسيع علاقاتها التجارية في الأسواق الأوروبية، مما قد يؤدي إلى منافسة شديدة مع الاتحاد الأوروبي، الذي قد لا يكون في وضع يسمح له بتحمل مثل هذه المنافسة.
ويختتم حديثه بقوله: شخصية ترامب كونه رجل صفقات يتبع أسلوب التهديد والتفاوض، حيث يبدأ بمطالب مرتفعة ثم يتفاوض للوصول إلى حلول وسط. لذا، من المحتمل أن لا يتم تنفيذ كل ما تم طرحه من تهديدات، بل ستتجه الأمور نحو مفاوضات للتوصل إلى حلول ترضي جميع الأطراف على مراحل.
قلب العلاقات العالمية
بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز”، فإنه:
- ربما كانت تهديدات ترامب تهدف إلى إسكات المستثمرين والاقتصاديين الذين تساءلوا مؤخرًا عما إذا كان الرئيس المنتخب سيمضي قدمًا في فرض الرسوم الكبيرة التي وعد بها أثناء حملته الانتخابية.
- في الفترة التي سبقت الانتخابات، تعهد ترامب بفرض تعريفات جمركية بنسبة 60 بالمئة على السلع القادمة من الصين وضريبة لا تقل عن 10 بالمئة على جميع الواردات الأخرى. مثل هذه الخطوة قد تشعل حرباً تجارية عالمية، مما يؤدي إلى تباطؤ الاقتصادات في جميع أنحاء العالم.
- سواء كانت تهديدات ترامب في نهاية المطاف تظهر براعته كصانع للصفقات أو تغرس الفوضى، فإنها تؤكد أن الرئيس المنتخب حريص على قلب العلاقات العالمية رأساً على عقب في محاولة لتأمين نقاط للولايات المتحدة.
- وهذا يشمل الاستعداد لإسقاط الاتفاقيات التجارية التي عمل هو نفسه على وضعها مع المكسيك وكندا والصين خلال ولايته الأولى بعد أن استخدم التعريفات الجمركية المؤلمة لإجبارها على تقديم التنازلات.
- كانت إحدى هذه الصفقات هي اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا. وقد حلت هذه الاتفاقية التجارية محل الاتفاقية السابقة، اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية التي دامت ثلاثين عاما، والتي وصفها ترامب بأنها “أسوأ اتفاقية تجارية على الإطلاق”.
- بموجب اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، يمكن للسلع التي تستوفي متطلبات معينة أن تتحرك في أنحاء القارة دون أن تخضع للرسوم الجمركية. وفرض رسوم جمركية بنسبة 25 بالمئة على جميع المنتجات المكسيكية والكندية يشكل انتهاكا واضحا لهذه الاتفاقية، وقد يثير تساؤلات حول مستقبل الاتفاقية نفسها.
تحديات
في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يُبرز أستاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، لموقع التحديات التي تواجه العلاقات الاقتصادية العالمية في الوقت الراهن.
- حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين: لا تزال التوترات قائمة، حيث تفرض الدولتان تعريفات جمركية على العديد من السلع، مما يزيد من المنافسة، لا سيما في مجالات التكنولوجيا.
- السياسات الحمائية: الاتجاه نحو تعزيز الإنتاج المحلي من خلال فرض قيود على التجارة الحرة، مما يؤدي إلى ردود فعل وتأثيرات متبادلة.
- الأزمات الجيوسياسية: الصراعات مثل الحرب في أوكرانيا تؤثر سلباً على التجارة وأسعار الطاقة، مما يزيد من الانقسامات الاقتصادية.
- تقلبات الاقتصاد العالمي: تباطؤ النمو وزيادة التضخم تدفع الدول إلى اتخاذ تدابير لحماية أسواقها، مما قد يسهم في تصاعد النزاعات التجارية.
أما عن التداعيات فتتلخص في تقدير الإدريسي فيما يلي:
- تراجع معدلات النمو: يؤدي هذا النمط من “الحروب التجارية” إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي نتيجة لانخفاض التجارة والاستثمارات.
- ارتفاع التكاليف على المستهلكين: التوسع في فرض التعريفات الجمركية يرفع أسعار السلع، مما يؤثر على القدرة الشرائية للمستهلكين.
- اضطرابات في سلاسل التوريد: القيود التجارية قد تعيق الوصول إلى المواد الخام والمنتجات النهائية.
ويشدد استاذ الاقتصاد الدولي على ضرورة تعزيز دور المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية في حل النزاعات وتنسيق السياسات، فضلاً عن أهمية تحديث القواعد التجارية لتتناسب مع التطورات الحديثة.