لطالما اعتُبرت الهند دولة ذات إمكانات اقتصادية ضخمة، إلا أن تحولها إلى قوة تصنيع كبرى، لا يزال متعثراً.
فبالرغم من كونها واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، فإن قطاع التصنيع في البلاد لا يزال يعاني من ضعف، مما يحُد من قدرة الهند على المنافسة في هذا المجال عالمياً.
وبحسب تقرير أعدته “فايننشال تايمز” واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن الهند فشلت ولفترة طويلة من الزمن في بناء قطاع تصنيع قوي، حيث ظلت مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد منخفضة بشكل عنيد، بل وتراجعت خلال العقد الماضي، رغم برنامج الدعم الحكومي الهائل لتشجيع الشركات على تبني مفهوم “التصنيع في الهند”، وحتى مع الفرص التي أتاحها انتقال رأس المال بعيداً عن الصين.
وتُظهر البيانات أن مساهمة قطاع التصنيع في الناتج المحلي للهند، تراجعت من 16.7 بالمئة في 2013-2014، إلى 15.9 في المئة في 2023-2024، كما أفاد تقرير للبنك الدولي في سبتمبر 2024، بأن حصة الهند في التجارة العالمية لا تتناسب مع النمو السريع لاقتصادها، حيث تفقد البلاد ميزاتها لصالح منافسين مثل بنغلاديش وفيتنام، اللتين أصبحتا من مراكز الجذب للتصنيع منخفض التكلفة.
بارقة أمل في الأفق
ورغم الصورة القاتمة لقطاع التصنيع الهندي، فإنه بدأت تلوح في الأفق بارقة أمل، تشير إلى تحولات إيجابية في هذا الشأن، حيث تشهد ولاية “تاميل نادو” في جنوب الهند، طفرة تصنيعية متسارعة قد تغيّر قواعد اللعبة، إذ نجحت الولاية في اجتذاب شركات كبرى مثل سيسكو، وكورنينغ، وفوكسكون، وفورد، وغوغل، وتاتا إلكترونيكس، وتاتا جاكوار لاند روفر، إضافة إلى موردي نايكي، لتعمل هذه الاستثمارات الضخمة على دمج الهند بشكل أعمق في سلاسل التوريد العالمية للإلكترونيات، والسيارات، والأحذية.
وخلقت ولاية “تاميل نادو” وعلى عكس باقي أنحاء الهند بشكل عام، تصوراً بأنها مكان ملائم نسبياً لممارسة الأعمال التجارية، فقد استفادت الولاية من نظامها التعليمي المتقدم الذي يُخرّج مئات الآلاف من طلاب الهندسة سنوياً، ما جعلها مركزاً رائداً للتصنيع في البلاد، لا سيما في قطاع السيارات وقطع الغيار.
وهذا التميز ساهم في اجتذاب كميات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى “تاميل نادو”، خلال سنوات الطفرة الاقتصادية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وإلى جانب ذلك، عمدت حكومة الولاية إلى تقديم حوافز سخية لدعم المستثمرين، مما عزز من جاذبية المنطقة كوجهة مفضلة للشركات العالمية.
ولكن مثل هذه الحوافز كانت متاحة في جميع أنحاء الهند، إلا أن الفارق يكمن في أن حكومة “تاميل نادو” عملت على تقليل المخاطر التي يتعرض لها المستثمرون الأجانب، فمنعت تعرضهم لضغوط سياسية محلية أو لتمييز أو إهمال بالمعاملة.
فمثلاً في عام 2021، كاد حادث تسمم غذائي في مصنع للإلكترونيات في الولاية، على وشك أن يتحول إلى حادث سياسي بامتياز، فتحركت الحكومة سريعاً باتجاه إدارة المعمل والعمال، وقامت بتقديم المساعدة للضحايا، كما أخذت عهداً من إدارة المعمل، برفع معايير السلامة الغذائية، وبذلك ضمنت الحكومة الحد الأدنى من الاضطراب التشغيلي لمالك العمل.
وفي عام 2021 أيضاً، أعلنت شركة فورد أنها بحاجة إلى التوقف عن الإنتاج في “تاميل نادو”، فتحركت حكومة الولاية وساعدت فورد على الخروج من السوق، من خلال حل قضايا العمالة المعقدة. وهذه التجربة أقنعت شركة فورد بأن مخاطر ممارسة الأعمال في “تاميل نادو” منخفضة.
لذا عندما قررت الشركة هذا العام القيام باستثمار جديد في الهند، اختارت مرة أخرى “تاميل نادو”، وبذلك تكون حكومة الولاية قد نجحت في تطبيق قاعدة “الخروج السهل يحفز الدخول المتحمس” التي ساهمت بإعادة فورد مجدداً إلى المكان نفسه.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن ولاية “تاميل نادو” تُعد من بين أغنى الولايات في الهند، وقد اجتذبت الكثير من اليد العاملة الفقيرة من باقي الولايات، وهو ما استفادت منه المصانع التي كانت على استعداد لتوظيف مجموعات من العمال من ذوي الأجور المنخفضة في ولايات هندية أخرى.
كما أن “تاميل نادو” تتمتع ببنية تحتية متطورة تشمل شبكة طرق حديثة وموانئ متقدمة، مما يجعلها مؤهلة لاستضافة العديد من المعامل والمشاريع الكبرى، وهو ما يساهم في تعزيز مكانتها كمحور صناعي في الهند.
ويرى خبراء الاقتصاد أنه إذا كانت الهند راغبة في تطوير قطاعها الصناعي، فلا بد لها من تكرار تجربة ولاية “تاميل نادو” التي ستنقل القطاع الصناعي في البلاد إلى مرحلة جديدة كلياً.
أسباب تراجع الصناعة الهندية
ويقول المحلل الاقتصادي محمد عبد الله في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه في عام 2014، أطلق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي برنامج “صنع في الهند” بهدف تحويل البلاد إلى مركز عالمي للتصنيع، وتعزيز حصة قطاع التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى 25 في المئة بحلول عام 2022، إلا أن هذا الهدف لم يتحقق، لا بل حصل العكس مع تراجع حصة التصنيع في الناتج المحلي، لافتاً إلى أن الأسباب التي تقف خلف هذا الفشل تعود للعوامل التالية:
البنية التحتية غير الكافية: رغم الاستثمارات الكبيرة التي ضختها الحكومة، تعاني الهند من ضعف في البنية التحتية الأساسية مثل الطرق، والموانئ، وشبكات الكهرباء، مما يزيد من تكاليف الإنتاج ويؤثر على القدرة التنافسية مقارنة بدول أخرى في المنطقة مثل فيتنام وبنغلاديش.
الروتين البيروقراطي والتعقيدات التنظيمية: لا تزال البيئة التنظيمية في الهند مليئة بالعوائق والبيروقراطية، مما يجعل عملية بدء وتشغيل الشركات أمراً معقداً، فرغم وعود الحكومة بتبسيط الإجراءات، إلا أن التقدم في هذا المجال كان بطيئاً.
نقص العمالة الماهرة: رغم النظام التعليمي الضخم في الهند، فإن المهارات المطلوبة في قطاع التصنيع لا تتناسب مع احتياجات الشركات، فالكثير من خريجي الجامعات لا يمتلكون المهارات العملية المطلوبة، مما يجبر الشركات على الاستثمار في تدريب العمال، وهو ما يزيد من تكاليف التشغيل.
ارتفاع تكلفة الإنتاج: تعتبر تكلفة الإنتاج في الهند مرتفعة مقارنة ببعض دول جنوب شرق آسيا الأخرى مثل فيتنام وبنغلاديش، حيث إن هذه الدول تقدم عمالة أقل تكلفة وبيئة إنتاج أكثر مرونة، كما أن تكاليف الشحن في الهند قد تكون أعلى، مما يزيد من تكاليف الإنتاج.
المنافسة الإقليمية: في ظل المنافسة الشديدة من دول جنوب شرق آسيا مثل فيتنام وبنغلاديش، للاستفادة من تدفق الاستثمارات بعيداً عن الصين بسبب التوترات التجارية مع أميركا، لم تتمكن الهند من التقاط الفرصة المتوفرة أمامها، فرغم وجود برامج تهدف إلى جذب الاستثمارات إلى البلاد، إلا أن الحكومات في فيتنام وبنغلاديش قدّمت حوافز ضريبية وتسهيلات كبيرة جداً مما جعلها أكثر جذباً للمستثمرين مقارنةً بالهند.
نجاح الخدمات وفشل التصنيع
من جهته يقول الصحفي جوزيف فرح في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه على مدار العقود الماضية، كانت الهند تعتمد بشكل أساسي على قطاع الخدمات لتحقيق نموها الاقتصادي، إذ أصبح قطاع الخدمات الهندي الأسرع نمواً على مستوى العالم ويسهم بنحو 60 بالمئة من حجم الاقتصاد الهندي.
ولكن في المقابل أدى التركيز على قطاع الخدمات إلى إضعاف قدرة البلاد على بناء قاعدة صناعية قوية مثل تلك التي ساعدت في صعود دول كبرى كالصين، لافتاً إلى أنه مع تصاعد المنافسة العالمية، تواجه الهند اليوم تحدياً كبيراً في إعادة تأهيل بيئتها الصناعية وتعزيز قدراتها في مجال التصنيع.
ويكشف فرح أن طموح الهند يتجسد حالياً في جعل مساهمة قطاع التصنيع في الناتج المحلي للبلاد يصل إلى 25 بالمئة بحلول عام 2047 وهو الهدف الذي فشلت في تحقيقه في عام 2022، مشيراً إلى أن الحكومة الهندية تعهدت بتسهيل ممارسة الأعمال الصناعية في البلاد، من خلال تبني مجموعة من الإصلاحات والسياسات التي تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتسهيل عملية الحصول على التراخيص، وتطوير بنية تحتية أفضل، وتعزيز النظام المالي المحلي لتقديم تسهيلات أفضل، وتبني تقنيات حديثة لتيسير الأعمال الإلكترونية والمعاملات الرقمية، وتطبيق إصلاحات ضريبية، إضافة إلى تعزيز قوانين حماية حقوق الملكية الفكرية لضمان الحقوق التجارية للمستثمرين الدوليين.
تجربة “تاميل نادو” لا تكفي
ويضيف فرح أنه لا يمكن لولاية “تاميل نادو” بمفردها أن تحل مشكلة الهند المزمنة في قطاع التصنيع، فالتحديات التي تواجهها البلاد في هذا المجال تتطلب إصلاحات على مستوى وطني تشمل تعزيز سياسات دعم الصناعة، وتبسيط سلاسل الإمداد والتوزيع، ولكن مع ذلك، يمكن لـ”تاميل نادو” أن تكون جزءاً من الحل، من خلال تعميم تجربتها الناجحة في جذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير قطاع التصنيع، فقد أثبتت الولاية قدرتها على خلق بيئة مؤاتية للأعمال، ما جعلها مركزاً رئيسياً للصناعات الإلكترونية والسيارات في الهند، وهو نموذج تحتذي به باقي الولايات.
#الهند
#اقتصاد عالمي