في تحول قد يعيد رسم خارطة صناعة الأدوية العالمية، تتخذ شركات الأدوية الأميركية قرارات بقطع العلاقات مع شركائها الصينيين.
فبعد سنوات من الاعتماد المتبادل في مجال التصنيع والبحث وتوفير المكونات الدوائية، تدفع الحرب التجارية المتصاعدة بين واشنطن وبكين هذه الشركات إلى البحث عن بدائل، مما يثير تساؤلات حول مستقبل صناعة الأدوية العالمية، وهل ستؤدي هذه الخطوة إلى ارتفاع أسعار الأدوية وهل ستضعف القدرة الإنتاجية العالمية للأدوية؟
وتعتمد شركات الأدوية والتكنولوجيا الحيوية الأميركية بشكل كبير على الشركاء الصينيين في مجال التصنيع والبحث وتوفير المكونات، لكن مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، يبحث بعضهم عن بدائل.
فبدءاً من شركات الأدوية الكبرى مثل أسترازينيكا إلى شركات التكنولوجيا الحيوية الصغيرة مثل أميكوس ثيرابيوتيكس في نيوجيرسي، التي تبحث عن شركة غير صينية لتوريد المواد الخام لعلاج الأمراض النادرة، تقول الشركات إن الوقت قد حان للحد من مخاطر الاعتماد على الصين، بحسب تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
ويشير التقرير إلى ما يقوله مسؤولون في هذه الصناعة بأن “إحدى العواقب المحتملة لهذا التحول قد تكون تباطؤ طرح الأدوية الجديدة وارتفاع أسعارها في الولايات المتحدة، حيث يتطلب هذا التحول وقتاً ومالاً، كما أن معظم المرضى الأميركيين لا يعرفون أن الشركات الأميركية والأوروبية غالباً ما تعتمد على الصين في مجال الخدمات الكيميائية الأساسية ومكونات الأدوية”.
وقال نيلو مينولفي الرئيس التنفيذي لشركة ” Kymera Therapeutics” التي تعمل على تطوير أدوية السرطان والمناعة وتتخذ من ماساتشوستس مقراً لها: “تتخذ الشركات الآن خيارات بناء على خفض مخاطر الاعتماد على دولة واحدة أو دولتين وبدأت في نقل المزيد من هذا العمل إلى أوروبا والهند والولايات المتحدة”.
وأرجع تقرير الصحيفة الأميركية أحد الدوافع وراء هذا التحول إلى قانون الأمن الحيوي (Biosecure Act)، الذي أقره مجلس النواب في سبتمبر بأغلبية ساحقة من الحزبين في الولايات المتحدة .
ويقضي التشريع بمنع الشركات التي تتلقى أموالاً أو عقوداً حكومية من التعامل التجاري مع قائمة من الشركات الصينية “المثيرة للقلق”، وأكبر الأسماء في القائمة هما WuXi AppTec وWuXi Biologics، شركتان صينيتان تابعتان لهما تحول إليهما الآلاف من العملاء حول العالم للبحث والتصنيع.
وقالت WuXi AppTec في مايو أن إدراجها في مشروع القانون هو “تعيين استباقي وغير مبرر دون إجراءات قانونية سليمة”. وقالت كل من WuXi AppTec وWuXi Biologics “إنهما لا تشكلان تهديداً أمنياً للولايات المتحدة أو أي دولة أخرى.
وأوضح التقرير أن آفاق قانون الأمن الحيوي في مجلس الشيوخ الأميركي لا تزال غير مؤكدة هذا العام، ويمنح الإصدار الحالي الشركات حتى عام 2032 لقطع العلاقات مع الشركات الصينية المستهدفة.
ومع ذلك، فإن احتمال فرض قيود قد أثر تأثيراً كبيراً على الشركات التي تدرس ما إذا كانت ستتعامل مع WuXi أو شركات صينية أخرى”، طبقاً لما قاله ستيف أبرامز، الرئيس العالمي المشارك لممارسات علوم الحياة في Hogan Lovells، وهي شركة قانونية.
تحديات سلاسل توريد الأدوية العالمية
ونوه التقرير بأنه على الرغم من التغييرات الأخيرة، فإن قطع العلاقات الصناعية بين الصين والغرب ليس تاماً، إذ لا تزال شركات الأدوية الأميركية والأوروبية ترى فرصاً واعدة في بيع منتجاتها في الصين، ثاني أكبر سوق للأدوية بعد الولايات المتحدة، ودولة ذات مجتمع متقدم في العمر. كما وقعت شركات التكنولوجيا الحيوية الصينية صفقات ترخيص بمليارات الدولارات تهدف إلى إدخال الأدوية من أصل صيني إلى العالم، وومع ذلك، فإن التأثير الأكبر سيكون على سلاسل توريد الأدوية.
وكمثال على شركة أميركية تقطع روابطها مع الصين هي Vir Biotechnology، ومقرها سان فرانسيسكو، والتي تعمل على تطوير علاجات مضادة للفيروسات والسرطان فقد أنهت الشركة التصنيع في WuXi Biologics في وقت سابق من هذا العام وتعمل مع شركاء تصنيع أميركيين وتركز على التطوير والتصنيع الداخليين، وفقاً لما ذكرته المتحدثة باسم الشركة.
وتبحث شركات أخرى عن مصادر جديدة للمواد الخام كحل احتياطي وتعمل شركات الأدوية الكبرى مثل أسترازينيكا على إنشاء سلاسل توريد منفصلة للصين والغرب.
تعتمد Amicus Therapeutics على WuXi Biologics في الصين لإنتاج علاجها لمرض بومبي، وهو مرض نادر يصيب القلب والعضلات، وموردها الرئيسي لبعض المواد الخام موجود أيضاً في الصين. في حين أن Amicus لا تزال مرتاحة للعمل مع WuXi بناءً على آخر إصدار لقانون الأمن الحيوي، فإنها تبحث عن مورد للمواد خارج الصين، كما قال برادلي كامبل، الرئيس التنفيذي لشركة Amicus.
وأضاف كامبل: “أدى قانون الأمن الحيوي إلى إجبارنا على إلقاء نظرة فاحصة على مكان الحصول على موادنا والطبيعة الحساسة لعلاقتنا مع الصين في الوقت الحالي
وتتعاقد نحو 80 بالمئة من شركات التكنولوجيا الحيوية الأميركية مع شركة صينية واحدة على الأقل، بحسب استطلاع أجرته منظمة الابتكار التكنولوجي الحيوي، وهي مجموعة صناعية.
نهج أميركي لتقليل مخاطر الاعتماد على الصين
في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي: “يندرج موضوع قطع شركات أدوية أميركية صلاتها بالصين تحت خطة الولايات المتحدة لتنويع سلاسل التوريد وتقليل اعتماد الشركات الأميركية بشكل عام على الصين.
وهذا النهج يشمل العديد من القطاعات وليس صناعة الأدوية فقط، إذ تسعى الشركات الأميركية إلى تقليل المخاطر المرتبطة بالاعتماد الكبير على الصين في توفير المواد الخام والخدمات التصنيعية وتطوير المنتجات، ومع هذا فقطاع الأدوية له خصوصية وأهمية على العالم ككل وليس فقط الولايات المتحدة والصين”.
ومع تزايد التوترات الجيوسياسية وتغير الأنظمة التجارية، بدأت الشركات الأميركية تنظر في تنويع مصادرها لتشمل دولاً أخرى مثل الهند ودول الاتحاد الأوروبي، وحتى بناء منشآت إنتاجية داخل الولايات المتحدة نفسها. هذه الخطوة تهدف إلى تقليل الاعتماد على مزود واحد أو سوق واحدة، مما يعزز القدرة على مواجهة أي أزمات مستقبلية قد تعطل سلاسل التوريد أو ترفع التكاليف، بحسب تعبيره.
وأضاف الخبير الاقتصادي القمزي: “تعتمد العديد من الشركات الأميركية والأوروبية على الصين لتوفير المواد الكيميائية والخدمات التصنيعية الأساسية. لكن نظراً لأن تأمين الأدوية يُعتبر أمراً حساساً، بدأت شركات الأدوية باتخاذ خطوات عملية نحو تقليل اعتمادها على الصين، من خلال نقل بعض عمليات التصنيع إلى مناطق أخرى أو إنشاء خطوط إنتاج داخلية، وذلك بهدف تعزيز استقرار سلاسل التوريد وتلبية المتطلبات التنظيمية.
هذا التحول، رغم أهميته في تعزيز الاستدامة وتقليل المخاطر، يأتي بتكاليف إضافية ويؤثر على سرعة طرح الأدوية في الأسواق”.
ومع ذلك يوضح القمزي بأن هذا يتطلب بناء بنى تحتية جديدة واستيفاء المعايير اللازمة للتصنيع وقتاً وموارد مالية كبيرة.
كما أن تعدد مصادر الإنتاج يمكن أن يزيد من التكلفة الكلية للأدوية، مما قد يؤثر على أسعار الأدوية التي تصل إلى المستهلكين.
لكن هل سينجح هذا التوجه؟ يجيب الخبير الاقتصادي القمزي على التساؤل بقوله: “لا يمكن إطلاق الحكم حالياً، ولكن من ناحية اقتصادية بحتة وكذلك إنسانية لابد من تطبيق استراتيجيات تعاون دولية تمكن من تبادل الموارد والتكنولوجيا وأفضل الممارسات بين الدول.
وهذا التوجه يمكن أن يسهم في بناء نظام صحي عالمي أكثر مرونة واستدامة، مع ضمان وصول المرضى إلى أدوية آمنة وعالية الجودة بأسعار مناسبة”.
دور متنام للصين في القطاع الدوائي
من جانبه قال مستشار الاقتصاد الدولي عامر الشوبكي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية: “تعد الصين ثاني أكبر سوق للأدوية في العالم بعد الولايات المتحدة، وقد اتضح دور الصين في سلاسل توريد الأدوية بشكل أكبر خلال جائحة كورونا حيث بدا النقص واضحاً في مصانع العديد من الأدوية التي تستمد موادها الأولية أو بعد مركباتها من الصين، لذلك فإن دور الصين في هذا المجال كان متنامياً وخصوصاً في الأعوام الخمسة الأخيرة”.
وأشار إلى أن الاتجاه الأميركي في الحرب التجارية على شركات الأدوية هي جزء من الحرب التجارية والاقتصادية على الصين في محاولة لتحجيم الاقتصادي الصيني، ويرى أن هذا الأمر سيتعمق مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية أخيراً.
وأضاف الشوبكي: “ترامب سيذهب بشدة بهذا الاتجاه مما سيتعكس سلباً على الأسواق العالمية في فترة تسميها بعض الجهات الأميركية بأنها فترة مخاض لا بد أن يتحملها السوق الأميركي والعالمي، أي أن يتحمل أسعار أدوية مرتفعة وفقدان بعض الأدوية لفترة معينة ريثما يتم التخلص من الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية بما يخص الأدوية”.
ويعتبر الشوبكي امتداد الحرب التجارية الأميركية الصينية إلى الأدوية أمراً خطيراً، وهناك مخاوف م أن تشمل جميع القطاعات مع عودة ترامب إلى السلطة.
ونوه مستشار الاقتصاد الدولي بأن بعض البحوث الأميركية تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط كبديل لأسواق سلاسل توريد الأدوية الصينية، وهناك اهتمام بأسواق الإمارات والسعودية ومصر والأردن على وجه الخصوص.