يُنظر إلى التوترات المتزايدة في بحر الصين الجنوبي باعتبارها واحد من أكثر القضايا الجيوسياسية حساسية في العالم اليوم، حيث يشهد هذا الممر الحيوي للصادرات والواردات مناوشات متكررة بين الصين وعدد من الدول المجاورة.. فكيف يمكن أن يؤثر ذلك على التجارة العالمية؟
يعتقد محللون بأن أي تصعيد في هذه المنطقة قد يؤدي إلى تعطيل سلاسل الإمداد العالمية، مما يترتب عليه زيادة تكاليف الشحن وتأخير تسليم البضائع. كما أن التهديدات بإغلاق الممرات البحرية أو فرض قيود على حركة السفن يمكن أن تؤدي إلى تقلبات كبيرة في أسعار السلع والخدمات، مما ينعكس سلبًا على الاقتصادات العالمية، خصوصًا تلك المعتمدة على التجارة مع الصين.
في هذا السياق، نقل تقرير لشبكة “سي إن بي سي” الأميركية، اطلع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عليه، عن خبراء، تحذيراتهم من أن بعضاً من أكثر طرق الشحن ازدحاماً في العالم معرضة للخطر بسبب تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي.
وبحسب التقرير، فإنه في الأشهر الأخيرة، تصاعدت الاشتباكات في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه بشدة، وهو بحر هام غرب المحيط الهادئ يمثل مساراً حيوياً للتجارة لكل من الصين واليابان والهند، وهم من بين أكبر اقتصادات العالم.
مع ادعاء بكين بأنها تملك تقريبًا كامل البحر، بينما هناك عدد قليل من الدول الأخرى لديها مطالب متداخلة، نشبت عدة اشتباكات بين الصين والفلبين وفيتنام، مما أثار مخاوف من حدوث حادث قد يعيق التجارة العالمية.
نقل التقرير عن الاستراتيجي العالمي في شركة BCA Research، ماركو بابيتش، قوله:
- هذه التطورات في بحر الصين الجنوبي يجب أن تكون على رادار الأسواق العالمية وسلاسل الإمداد بسبب أهمية هذه الممرات المائية للتجارة الدولية.
- بحر الصين الجنوبي هو أكثر طرق الشحن قيمة في العالم من حيث قيمة التجارة التي تمر عبره.. والنزاع هناك يشكل مخاطر واضحة على الشحن العالمي.
- هذا الممر البحري ضروري بشكل خاص للسلع الأساسية والمواد الأولية التي تمر عبره للوصول إلى الصين، حيث يتم بعد ذلك نقل السلع المصنعة في الصين عبر هذا المسار إلى أجزاء أخرى من العالم.
وأصبحت النزاعات في المنطقة تثير اهتمام الحكومات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي ترتبط بمعاهدة دفاع متبادلة مع الفلبين.
وبينما لا توجد بيانات دقيقة حول حجم التجارة التي تمر عبر بحر الصين الجنوبي، فإن مشروع قوة الصين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية يقدر أن 3.4 تريليون دولار من التجارة مرت عبر بحر الصين الجنوبي في عام 2016، مما يشكل 21 بالمئة من التجارة العالمية.
في الوقت نفسه، قدرت مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن 60 بالمئة من التجارة البحرية مرت عبر آسيا في نفس العام، مع تقدير أن بحر الصين الجنوبي يحمل نحو ثلث الشحن العالمي.
أهمية استراتيجية
قال مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، بلال شعيب، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن الولايات المتحدة تسعى إلى أن يكون بحر الصين الجنوبي بؤرة للتوتر والنزاعات في ظل الحرب الاقتصادية الشرسة بينها وبين الصين، لا سيما وأن هذا البحر، الذي تبلغ مساحته حوالي 3.5 مليون كيلومتر مربع، يُعد ممراً حيوياً للتجارة العالمية بحجم تجارة يبلغ نحو 5 تريليون دولار سنوياً.
وأضاف: بحر الصين يعتبر نقطة اتصال استراتيجية بين المحيطين الهندي والهادئ، ويمتلك أهمية اقتصادية كبيرة نظرًا لاحتوائه على موارد طبيعية غنية، منها 12 بالمئة من إجمالي الصيد العالمي من الأسماك، واحتياطيات نفطية ضخمة تصل إلى 11 مليار برميل نفط، بالإضافة إلى 190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي.
“إن هذه الثروات الهائلة جعلت من بحر الصين الجنوبي ساحة نزاع دولي محتدمة، حيث تحاول الولايات المتحدة ممارسة ضغوط على الصين من خلال تحالفات عسكرية واتفاقيات مشتركة، أبرزها مع الفلبين.. كما أن هناك دولًا أخرى متحالفة في هذه المواجهة مثل ماليزيا وتايوان وفيتنام، وكلها تسعى إلى حماية مصالحها في مواجهة الصين، التي تواصل مساعيها للسيطرة على البحر، ما يهدد بتحويل المنطقة إلى ساحة صراع طويل الأمد.، وفق شعيب.
وأشار إلى أن “أي تصعيد في هذه المنطقة سيؤثر بشكل كبير على حركة التجارة العالمية، فقرابة 5 تريليون دولار من التجارة البحرية تمر عبر بحر الصين الجنوبي، وهو ما يعكس أهمية هذا الممر الاستراتيجي بالنسبة لدول آسيا وإفريقيا وأوروبا. وإذا تفاقمت التوترات، قد يتأثر الاقتصاد العالمي بشكل مباشر، مما يؤدي إلى ضغوط تضخمية جديدة في وقت يقترب فيه الدين العالمي من حاجز 315 تريليون دولار، مع ثلث هذه الديون تقريبًا في الولايات المتحدة.”
واختتم شعيب تصريحه بالقول: “العالم اليوم بحاجة إلى لغة العقل والحلول الدبلوماسية بدلاً من الاعتماد على الأدوات العسكرية. تصعيد الصراعات في بحر الصين الجنوبي سيؤدي إلى مزيد من التوترات الاقتصادية، في وقت يجب فيه التركيز على التعافي الاقتصادي والتخفيف من حدة التضخم العالمي.”
مناوشات مستمرة
في وقت سابق من هذا الشهر، اتهمت الفلبين زوارق صواريخ صينية بملاحقة السفن الفلبينية وتوجيه أشعة ليزر نحو الطائرات التي تقوم بدوريات بالقرب من منطقة متنازع عليها. ويأتي ذلك بعد اشتباكات أخرى شملت تصادمات بين القوارب، واستخدام مدافع المياه، وإصابات في صفوف البحارة الفلبينيين، وفقًا لمسؤولين فلبينيين.
وقد دفع الرئيس الفلبيني بهذه القضية في قمة إقليمية يوم الخميس، مطالباً بتسريع المفاوضات بشأن مدونة سلوك لبحر الصين الجنوبي، متهمًا بكين بالتحرش والترهيب.
في الوقت نفسه، أدانت وزارة الخارجية الفيتنامية أيضاً مؤخراً أفعال الصين في بحر الصين الجنوبي، متهمة الزوارق الصينية بشن “هجوم عنيف” على قوارب الصيد الفيتنامية.
وبحسب ما نقله تقرير الشبكة الأميركية عن المستشار السياسي والمحاضر البارز في الشؤون الدولية بجامعة الفلبين، ريتشارد هيداريان، فقد رأينا في الأسابيع القليلة الماضية أن التوترات لا ترتفع فقط بين الصين والفلبين، ولكن أيضًا مع فيتنام، مضيفاً: “أعتقد بأنه مجرد مسألة وقت قبل أن تتحدث المزيد من دول آسيان، وأن الأمر مسألة وقت قبل أن نشهد اشتباكات أكثر إشكالية”.
تصاعد التوترات
وإلى ذلك، قال الخبير الاقتصادي، علي الإدريسي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن “تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي يمكن أن يُحدث تأثيرات واسعة على التجارة العالمية، نظراً لأهمية هذا الممر البحري الحيوي ودور الصين كمصدر رئيسي للسلع عالمياً. حيث يُعتبر بحر الصين الجنوبي واحداً من أهم الممرات البحرية التي يمر عبرها نحو ثلث التجارة البحرية العالمية.
وأوضح الإدريسي أن أحد التأثيرات الرئيسية المتوقعة هو اضطراب سلاسل الإمداد، إذ إن أي تصعيد في التوترات أو اندلاع صراع عسكري في المنطقة قد يؤدي إلى تعطيل حركة السفن التجارية، ما يتسبب في تأخير تسليم البضائع ويؤثر سلبًا على الاقتصاد العالمي. كذلك، قد تضطر شركات الشحن إلى تغيير مساراتها لتجنب المنطقة، مما سيزيد من تكاليف النقل والشحن، وبالتالي ينعكس ذلك على ارتفاع أسعار السلع والخدمات عالميًا.
وأضاف الإدريسي: “بحر الصين الجنوبي يعد أيضاً مساراً رئيسياً لنقل النفط من الشرق الأوسط إلى آسيا، وأي اضطراب في إمدادات النفط بسبب هذه التوترات قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في أسعاره، ما سيؤثر بدوره على الاقتصادات العالمية. علاوة على ذلك، فإن المخاطر الأمنية التي قد تنتج عن التصعيد العسكري ستتطلب تأمينات أعلى للسفن والشحنات، مما سيضيف تكاليف إضافية على حركة التجارة البحرية.”
وأشار الإدريسي إلى أن “الدول المجاورة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، تعتمد بشكل كبير على هذا الممر البحري في تجارتها، وبالتالي فإنها قد تواجه اضطرابات اقتصادية كبيرة في حال تصاعد التوترات. إضافة إلى ذلك، فإن أي تصاعد في النزاع قد يؤدي إلى فرض عقوبات أو قيود اقتصادية على الصين أو الدول الأخرى المتنازعة، مما سيغير من السياسات التجارية العالمية ويؤثر على تدفق السلع والاستثمارات.”
واختتم الإدريسي تصريحه بقوله: “تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي، إلى جانب التوترات الجيوسياسية في المنطقة العربية، يمكن أن يُحدث اضطرابات شاملة في التجارة العالمية. في ظل استمرار الاقتصاد العالمي في معاناته من عدم الاستقرار نتيجة الصدمات المتتالية، يصبح من الضروري تكثيف الجهود الدولية لمنع أي تصعيد قد يؤثر على استقرار الاقتصاد العالمي.”
تجنب التصعيد
ولا تزال هناك العديد من الأسباب التي تدفع جميع الأطراف المعنية لتجنب تصعيد أكبر للنزاع، رغم أن الخبراء يقولون إن المخاطر الجيوسياسية في بحر الصين الجنوبي تزداد.
في هذا السياق، ذكر تقرير لـ chinadaily، أن النزاعات في بحر الصين الجنوبي لا تزال “قابلة للإدارة”، مستشهداً بتقرير صادر عن مركز أبحاث مبادرة استكشاف الوضع الاستراتيجي في بحر الصين الجنوبي ومقره بكين، أظهر الشهر الماضي أن بحر الصين الجنوبي هو أكثر بحار العالم ازدحاما وازدهارا وانفتاحا، حيث تضمن حرية الملاحة والتحليق للسفن والطائرات بشكل كامل.
بحسب التقرير، الذي استشهد بإحصاءات عامة، فإن نحو 500 ألف سفينة تجارية تمر عبر بحر الصين الجنوبي سنويا، حيث يمر نحو 40 بالمئة من التجارة العالمية عبر المنطقة والمضائق المجاورة لها. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل أكثر من مليون رحلة جوية مدنية في أجواء بحر الصين الجنوبي سنويا.
وأشار التقرير إلى أن الولايات المتحدة كانت في السنوات الأخيرة تروج لاستراتيجية لاحتواء الصين من خلال تسليط الضوء على قضية بحر الصين الجنوبي، مما أدى إلى تفاقم بعض النزاعات في المنطقة. ومع ذلك، أكد التقرير أن النزاعات الحالية لم تؤثر على حرية الملاحة والتحليق التي تتمتع بها دول أخرى في بحر الصين الجنوبي.
وأظهرت أن التفاعلات واللقاءات بين الجيشين الصيني والأميركي في بحر الصين الجنوبي كانت بشكل عام احترافية وآمنة، مضيفاً أن تأثير التوترات الجيوسياسية على حرية الملاحة والتحليق في المنطقة لا يزال ضمن “نطاق يمكن التحكم فيه”.