يتخوف عديد من المحللين من أنه في حال فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة مرة أخرى، من المتوقع أن تتأثر التجارة العالمية بشكل كبير، نظراً لسجله السابق في اتباع سياسات تجارية حمائية وفرض تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات.
تعتمد هذه السياسات على استراتيجية “أميركا أولاً”، والتي تهدف إلى تقليل العجز التجاري للولايات المتحدة وحماية الصناعات المحلية، لكنها تؤدي في الوقت نفسه إلى تقويض علاقات التجارة الدولية وإثارة توترات مع الشركاء التجاريين الرئيسيين.
من خلال فرض تعريفات جمركية جديدة أو تعزيز القيود التجارية القائمة، قد يتسبب ترامب في تقليص حجم التجارة العالمية، وزيادة تكلفة السلع المستوردة، وتفاقم التوترات الاقتصادية بين الدول.
مثل هذه السياسات من شأنها أن تؤدي إلى ردود فعل انتقامية من الدول الأخرى، مما قد يعمق الخلافات التجارية ويعطل سلاسل التوريد العالمية، في وقت تسعى فيه الاقتصادات العالمية إلى تحقيق استقرار اقتصادي عقب أزمات الركود والتضخم. وفي هذا السياق، سيكون لأي قرارات تجارية جديدة صادرة عن إدارة ترامب تأثير مباشر على الأنشطة الاقتصادية العالمية وعلى العلاقات التجارية الدولية.
قدرات سحرية
يقول مارتن وولف في مقال له بصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية اطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، يؤمن بأن التعريفات الجمركية تمتلك “قدرات سحرية”، فقد قال في خطابه في نادي نيويورك الاقتصادي الشهر الماضي: “لقد أوقفت الحروب بفضل التهديد بالتعريفات الجمركية”. وأضاف: “أوقفت الحروب مع دولتين كانتا ذات أهمية كبيرة”. هذه الثقة الكبيرة في التعريفات دفعته إلى اقتراح زيادتها إلى 60 بالمئة على الواردات من الصين وما يصل إلى 20 بالمئة على الواردات من باقي دول العالم. بل إنه اقترح فرض تعريفات جمركية بنسبة 100 بالمئة على الواردات من الدول التي تهدد بالابتعاد عن الدولار كعملة عالمية مفضلة.
في مقال نشرته مجلة “ذا أتلانتيك” في 25 سبتمبر، يجادل أورين كاس، المدير التنفيذي لـ”أميركان كومباس” ومحرر مساهم في “فايننشال تايمز”، بأن الاقتصاديين الذين ينتقدون مقترحات ترامب يتجاهلون الفوائد المحتملة. خصوصًا أنهم يغفلون عن “التأثير الخارجي” المهم، وهو أن المستهلكين الذين يشترون السلع الأجنبية “ربما لن يأخذوا في اعتبارهم الأهمية الأوسع لصناعة المنتجات في أميركا”. يمكن للتعريفات أن تعوض عن هذا التأثير الخارجي، من خلال إقناع الناس بشراء المنتجات الأمريكية وتوظيف الأميركيين.
ومع ذلك، كما كتب كيمبرلي كلاوسينغ وموريس أوبستفيلد في ورقة قوية لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي، فإنه لا يكفي الادعاء بأن بعض الفوائد قد تتحقق. ولتبرير مقترحات ترامب، يجب تقييم تكاليف هذه الإجراءات، وحجم الفوائد المتوقعة، والأهم من ذلك، ما إذا كانت هذه الإجراءات هي الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف المرجوة. للأسف، التكاليف ضخمة، والفوائد مشكوك فيها، وهذه الإجراءات أقل فعالية من الخيارات البديلة.
ضريبة على الواردات
ويضيف كاتب المقال: التعريفات الجمركية هي ضريبة على الواردات. يبدو أن ترامب يعتقد بأن هذه الضريبة سيتم دفعها من قبل الأجانب. البعض يدعم هذا الرأي بحجة أن الآثار التضخمية لتعريفات ترامب كانت صعبة التحديد. هذا أمر قابل للنقاش بشكل كبير.
في كل الأحوال، المقترحات الجديدة لترامب ستطبق، كما يقول كلاوسينغ وأوبستفيلد، “على واردات تزيد ثماني مرات عن واردات الجولة السابقة (حوالي 3.1 تريليون دولار وفقًا لبيانات 2023)”. هذا سيكون له تأثير أكبر بكثير على الأسعار مقارنة بـ”الحمائية الأولية” المعتدلة التي فرضها ترامب في ولايته الأولى، بحسب مقال وولف.
علاوة على ذلك، لاحظ أنه إذا تحمل الموردون الأجانب تكلفة التعريفات، فلن تتأثر أسعار المستهلكين الأميركيين. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا ستؤدي التعريفات إلى إحياء الشركات الأميركية التي تنافس الواردات؟ كل ما ستفعله حينها هو تقليص الأرباح والأجور في الدول الموردة. فقط إذا ارتفعت الأسعار بسبب التعريفات، يمكنها تحقيق النهضة الصناعية التي يرغب فيها أنصار الحمائية.
ماذا عن الفوائد إذن؟
تحدث الصحفي الاقتصادي الفرنسي في القرن التاسع عشر فريديريك باستيات عن “ما يُرى وما لا يُرى”. في السياسات التجارية، هذه التفرقة حيوية. فالضريبة على الواردات هي، بالأساس، أيضًا ضريبة على الصادرات. هذا ليس فقط لأن التعريفات تشكل عبئًا على المصدرين الذين يعتمدون على المدخلات المستوردة، بل أيضًا لأن الطلب على العملات الأجنبية سينخفض وسيرتفع سعر صرف الدولار إذا تراجعت الواردات، كما هو مأمول.
وهذا سيجعل الصادرات أقل تنافسية. وبالتالي، فإن التعريفات المرتفعة التي يقترحها ترامب ستعمل على توسيع الصناعات التي تحل محل الواردات، ولكن ستؤدي إلى انكماش الصناعات التصديرية الأكثر تنافسية. وهذا يبدو صفقة سيئة للغاية. الانتقام الأجنبي ضد الصادرات الأمريكية سيزيد من تفاقم هذه الأضرار، وفق المقال.
وأضاف كاتب المقال: من المهم الإشارة أيضًا إلى أن الاقتصاد الأميركي الآن قريب من التوظيف الكامل. لذا، فإن أي تحول في العمالة نحو الصناعات التي تحل محل الواردات سيكون على حساب أنشطة أخرى. في الواقع، هذه واحدة من أهم الفروقات مع تعريفات ماكينلي المحببة لدى ترامب في عام 1890. بعد عام 1880، تدفقت الأعداد الريفية في الولايات المتحدة إلى المناطق الحضرية مع توسع الصناعة. علاوة على ذلك، بين عامي 1880 و1900، دخل حوالي 9 ملايين مهاجر إلى الولايات المتحدة، وهو ما يقرب من خمس السكان في ذلك الوقت. هذا يعادل 60 مليون مهاجر خلال العشرين سنة القادمة. لا داعي للقول إنه لا يوجد مثل هذا العرض الجديد من العمالة الآن. على العكس، يقترح ترامب طرد الملايين من المهاجرين.
يبدو أن ترامب نفسه يعتقد أن التعريفات المرتفعة وانخفاض الواردات ستحسن العجز الخارجي للولايات المتحدة. لكن الأخير هو جزئيًا الصورة المرآة لتدفق رأس المال إلى الولايات المتحدة. أحد أسباب هذا التدفق هو رغبة الأجانب في استخدام (وبالتالي الاحتفاظ بـ) الدولار، وهو شيء يسعى ترامب بشدة للحفاظ عليه، بحسب المقال.
سبب آخر هو الطلب المحلي الزائد، والذي يعكس إلى حد كبير العجز المالي، الذي يسعى ترامب أيضًا إلى استمراره. في الواقع، التدفقات الداخلة من المدخرات الأجنبية والعجوزات المالية هي بلا شك الأسباب الرئيسية للعجز الخارجي المستمر الذي يكرهه ترامب.
أخيرًا، والأهم من ذلك، هي الفوائد المزعومة لهذه التعريفات العالية للطبقة العاملة. واحدة من الاقتراحات التي قدمها ترامب هي أن إيرادات التعريفات يمكن أن تحل محل ضريبة الدخل. لكن كاتب المقال يعلق قائلاً: “هذا هراء”.. إذا تم تطبيق هذا الاقتراح، فإن برامج ذات أهمية كبيرة للأميركيين العاديين، مثل ميديكير، قد تنهار.
وفقًا لوثيقة أخرى من كلاوسينغ وأوبستفيلد، فإن التعريفة الجمركية التي تصل إلى 50 بالمئة ستوفر إيرادات بقيمة 780 مليار دولار فقط، أي أقل من 40 بالمئة من الإيرادات المحصلة من ضريبة الدخل. والأسوأ من ذلك، أن التعريفات تعتبر ضريبة على مبيعات السلع المستوردة، وهي ضريبة رجعية للغاية. فالأثرياء ينفقون نسبة أقل من دخلهم على هذه المنتجات.
وفي المجمل – بحسب المقال- تعتبر تعريفات ترامب فكرة مشوهة: ستساعد القطاعات الأقل تنافسية في الاقتصاد، بينما تضر بالأجزاء الأكثر تنافسية؛ ستلحق الضرر بالعديد من مؤيديه؛ وستتسبب في أضرار جسيمة للتجارة الدولية، والاقتصاد العالمي، والعلاقات الدولية.
صحيح أن هناك حالة للتدخلات الصناعية المستهدفة. لكن جدران التعريفات الجمركية التي يقترحها ترامب هي العكس تمامًا. سيكون من الأفضل تقديم إعانات مستهدفة وشفافة. علينا أن نأمل ألا تبدأ هذه الحرب التجارية الجديدة على الإطلاق.
تقلبات كبيرة
في هذا السياق، أشار مدير مركز مصر للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، الدكتور مصطفى أبو زيد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن صندوق النقد الدولي كان قد حذر في تقرير سابق من احتمال حدوث تقلبات كبيرة في السياسة الاقتصادية العالمية هذا العام، نتيجة للانتخابات التي تشهدها العديد من الدول، حيث قد يؤدي تصاعد السياسات الحمائية إلى تداعيات خطيرة.
وأضاف أبو زيد أن المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب يعتزم فرض رسوم جمركية بنسبة 10 بالمئة على جميع الواردات، و60 بالمئة على الواردات القادمة من الصين. وإذا فاز ترامب في الانتخابات الرئاسية، فإن هذه الإجراءات قد تقوض الجهود التي بذلتها البنوك المركزية على مدى الفترة الماضية لضبط السياسات النقدية ودعم الاستقرار الاقتصادي.
وأشار كذلك إلى أن التضخم العالمي يشهد حالياً استقراراً حذراً، ولكن السياسات النقدية المتبعة لمواجهته تختلف من اقتصاد لآخر وفقاً للظروف الخاصة بكل دولة، لاسيما من حيث تكاليف الإنتاج ومعدلات البطالة. وأوضح أن التضخم يتأثر إلى حد كبير بالأحداث الإقليمية والدولية، واضطرابات سلاسل الإمداد، مثل تلك المرتبطة بالبحر الأحمر وارتفاع تكاليف الشحن وتأخير الرحلات البحرية. هذه الاضطرابات تؤدي إلى زيادة استهلاك الوقود وإطالة فترات النقل، مما ينعكس على ارتفاع أسعار السلع والبضائع.
وأضاف أبو زيد أن الحكومات تواجه تحديات كبيرة في مساعيها للسيطرة على التضخم ووضعه على مسار تنازلي، مشيراً إلى أن إنهاء الأزمات القائمة في غزة والبحر الأحمر سيسهم بشكل كبير في استعادة انسيابية سلاسل الإمداد، مما سيعزز تدفق السلع والبضائع للأسواق، ويؤدي إلى انتعاش النشاط الاقتصادي، وزيادة الإنتاج وفرص العمل، وبالتالي خفض معدلات البطالة.
وختم بقوله إن عودة ترامب إلى الرئاسة قد تشكل تهديداً كبيراً للاقتصاد العالمي، نظراً لما قد تترتب عليه سياساته الاقتصادية من تكاليف باهظة على اقتصادات دول العالم كافة.
تصريحات للاستهلاك الداخلي
في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أكد مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث ورئيس منتدى تطوير الفكر العربي للأبحاث، أبو بكر الديب، أن عديداً من تصريحات المرشح الجمهوري دونالد ترامب تُعد في معظمها للاستهلاك الداخلي لأغراض انتخابية، وأنه من غير المرجح تنفيذها بشكل كامل حال فوزه بالانتخابات. ومع ذلك، حذر من أنه في حال أصر ترامب على تطبيق تلك السياسات، فإن تأثيرها سيمتد إلى نحو 100 دولة على مستوى العالم.
وأوضح الديب أن ترامب فرض خلال رئاسته السابقة رسومًا جمركية كبيرة على الواردات القادمة من الصين، إيماناً منه بأن هذه الإجراءات الحمائية تعزز الاقتصاد الأميركي. وأضاف أنه حتى اقترح فرض رسوم بنسبة 100 بالمئة على الواردات من الدول التي تهدد الابتعاد عن الدولار كعملة احتياطية عالمية، وذلك في إطار سعيه لتحسين العجز الخارجي للولايات المتحدة.
وأشار الديب إلى أن دول أوروبا، علاوة على كندا والمكسيك ستكون من بين الأكثر تضرراً إذا ما تمكن ترامب من تنفيذ سياساته، خاصة في ما يتعلق بفرض قيود على الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، فضلاً عن القضايا المرتبطة بالمناخ والهجرة والأمن. وأضاف أن هذه الإجراءات ستشمل فرض تعريفات جمركية أكثر قسوة، حواجز تجارية، وقيود على التحويلات المالية والعمالة. كما يمكن أن تطرأ تغييرات على التحالفات العسكرية والأمنية والإنفاق الدفاعي، ما سيؤثر بشكل مباشر على حلف شمال الأطلسي (الناتو) ويضعف التعاون الدولي في القضايا الأمنية.
ضرر محتمل
وأوضح الخبير الاقتصادي علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن سياسات ترامب التجارية كانت لها تأثيرات معقدة على الاقتصاد العالمي، بعضها يمكن وصفه بالضار على المدى القصير والطويل. وأكد الإدريسي أن هناك عدة نقاط توضح هذا الضرر المحتمل:
- زيادة الحمائية: تبنّى ترامب نهجًا حمائيًا عبر فرض تعريفات جمركية مرتفعة، خاصة على الصين وأوروبا، مما أدى إلى تعطيل التجارة العالمية وزيادة التكاليف على الشركات والمستهلكين، وهو ما ساهم في تقليل النمو الاقتصادي العالمي.
- الحرب التجارية مع الصين: تبادل فرض الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين أسفر عن اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية وأثر بشكل سلبي على التجارة الدولية، ما قلل من الاستثمارات وزاد من حالة عدم اليقين في الأسواق.
- التأثير على التحالفات الاقتصادية: السياسات التجارية لترامب أضرت بالعلاقات مع حلفاء تقليديين مثل الاتحاد الأوروبي وكندا. هذه السياسات أثرت سلبًا على التعاون الاقتصادي الطويل الأمد، وأضعفت الثقة المتبادلة في الأسواق المالية والتجارية.
- تأثير سلبي على النمو العالمي: السياسات التي تحد من التبادل التجاري الحر تؤدي إلى تقليل الإنتاجية والنمو العالمي، حيث تؤدي الحمائية إلى تراجع الكفاءة الاقتصادية نتيجة صعوبة الوصول إلى الأسواق أو السلع بأسعار تنافسية.
وأشار الإدريسي إلى أن هناك من قد يجادل بأن هذه السياسات أفادت الولايات المتحدة على المدى القصير من خلال حماية الصناعات المحلية وزيادة العائدات من الرسوم الجمركية. ولكن على المستوى العالمي، كان التأثير السلبي على التبادل التجاري والاقتصاد العام أكثر وضوحًا، ما أضر بالنمو الاقتصادي العالمي.