لو كانت الحروب تقاس من خلال تأثيرها الاقتصادي فقط، لكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد أعلن منذ فترة طويلة “النصر الكامل”. فقد أصبح قطاع غزة في حالة خراب، واقتصاد الضفة الغربية محطم، واقتصاد لبنان يترنح تحت وطأة الهجوم الإسرائيلي على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية.
لكن في حال أعلنت إسرائيل النصر، فلن يعترف مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن هذا النصر يعد بيريك (Pyrrhic). ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون هذا الانتصار مكلفًا للغاية، تمامًا كما لو كان انتصارا كاملا، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية.
وتشير كلمة بيريك (Pyrrhic) إلى انتصار باهظ الثمن، حيث تكون تكلفة تحقيق النصر كبيرة للغاية.
لماذا خسر اقتصاد إسرائيل الحرب؟
بحلول الثلاثين من يونيو، أصبح الاقتصاد الإسرائيلي أصغر بنحو 1.5 بالمئة، مقارنة بالعام السابق، وذلك لأنه لم يتعاف بعد بشكل كامل من انهيار الأسابيع القليلة الأولى من الحرب.
لقد خفضت وكالات التصنيف الائتماني الثلاث العالمية الرئيسية: موديز وستاندرد آند بورز وفيتش، التصنيف الائتماني لإسرائيل. كما انكمشت الصادرات والاستثمارات، وتسببت القيود المفروضة على المعروض في زيادة التضخم، وسوف يستغرق سداد فاتورة الحرب المتضخمة سنوات عديدة.
ولن تتوقف الأضرار الاقتصادية في التزايد، حيث تتوقع وكالة ستاندرد آند بورز غلوبال، وهي آخر وكالات التصنيف الائتماني التي تحركت ضد الاقتصاد الإسرائيلي، أن يحقق الاقتصاد الإسرائيلي نموًا صفريًا في عام 2024 ونموًا بنسبة 2.2 بالمئة في عام 2025، أي أقل من نصف تقديراتها السابقة.
ووفقًا لوكالة ستاندرد آند بورز، سينكمش الناتج المحلي الإجمالي هذا العام وينمو فقط بنسبة 0.2 بالمئة في عام 2025. ولا يزال قطاع التكنولوجيا الفائقة في حالة ركود، حيث انخفض عمليات جمع التمويل بنسبة 20 بالمئة في الربع الثالث مقارنة بالربع الثاني، وفقًا لمركز أبحاث IVC.
هل كان لا بُدَّ أن يصبح الاقتصاد بهذا السوء؟
تقول الصحيفة الإسرائيلية إن هناك عاملان يجب أخذهما في الاعتبار:
- الأول هو ما إذا كان لابد أن تستمر الحرب كل هذه المدة
- الثاني هو ما إذا كانت الحكومة قادرة على إدارة التأثير الاقتصادي للصراع على نحو أفضل.
لقد كان من الواضح منذ البداية أن حرب غزة لن تكون مثل الحروب الأخرى مع حماس، والتي لم تستمر لأكثر من بضعة أسابيع.
لقد علمت إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 أن حماس لم يعد من الممكن احتواؤها ــ بل لابد من هزيمتها، وهزيمة حزب الله أيضاً لأنه يشكل تهديداً مماثلاً. وهذا من شأنه بالضرورة أن يستلزم حرباً أطول وأكثر تكلفة، ولكن إلى متى وإلى أي مدى سوف تكون هذه الحرب مكلفة… الإجابة تعتمد في المقام الأول على القادة الإسرائيليين.
إسرائيل تصر .. لا مزيد من الاحتواء
لقد كانت الحكومة الإسرائيلية تدعو إلى تحقيق “النصر الكامل”. وبالنسبة لنتنياهو فإن هذا يعني انتصاراً من شأنه أن يمحو وصمة العار التي لحقت بمسيرته المهنية منذ السابع من أكتوبر، وأن يسمح له بالاحتفاظ بمنصبه كرئيس للوزراء. أما بالنسبة لشركائه من اليمين المتطرف فإن النصر يعني إعادة احتلال غزة وإعادة توطين سكانها لمحو “وصمة العار” التي لحقت بانسحاب عام 2005.
بعد مرور عام على القتال، لا تزال أمانيهم عن النصر الكامل بعيدة المنال، وبالتالي تستمر الحرب دون نهاية تلوح في الأفق.
كان بوسع زعماء إسرائيل أن يختاروا تبني وجهة نظر أوسع نطاقاً بشأن الحرب وأهدافها، وخاصة تأثيرها على الاقتصاد ومكانة إسرائيل العالمية. وكان بوسعهم أن يحددوا لأنفسهم أهدافاً عسكرية معقولة، مثل ضمان إضعاف حماس عسكرياً إلى الحد الذي يجعلها عاجزة عن شن حرب أخرى مثل حرب السابع من أكتوبر، وإنشاء آليات لحكم غزة وإعادة بنائها بعد انتهاء القتال.
وقالت الصحيفة الإسرائيلية: “لو كان الأمر كذلك، لكان من الممكن أن يتم الإعلان عن النصر في غزة قبل أشهر، وتحويل الاهتمام إلى لبنان في وقت مبكر بما يكفي لكي نحتفل في السابع من أكتوبر 2024 بالذكرى السنوية لصراع قد ولى وانتهى. ولكانت الضربة التي لحقت بالاقتصاد نتيجة لحرب أقصر أمداً خطيرة، ولكنها كانت لتكون أقل كثيراً، ولكانت عملية التعافي قد بدأت بالفعل”.
وفيما يتعلق بالقضية الثانية المتعلقة بالإدارة الاقتصادية للأزمة، يكفي أن ننظر إلى كيفية تعامل نتنياهو مع وزيري الدفاع والمالية.
وداعا لـ الاقتصاد
رغم أن نتنياهو يواصل تهديده بإقالة وزير الدفاع لأسباب سياسية بحتة، فإن الحقيقة هي أن رئيس الوزراء أبقى على يوآف غالانت في وظيفته لأنه يدرك أن البلاد لا يمكن أن تكون بدون وزير دفاع ذي خبرة واسعة وقادر على إدارة الحرب، خاصة عندما تكون إسرائيل على شفا الحرب مع إيران.
وقالت الصحيفة إن إسرائيل في زمن الحرب تحتاج أيضاً إلى وزير مالية متمرس وقادر (ومتفرغ)، ولكن نتنياهو راضٍ عن السماح لبتسلئيل سموتريتش عديم الخبرة واللامبالاة بالبقاء في منصبه. وعلى النقيض من جالانت، الذي لا يتمتع بقاعدة ناخبين ولا يساهم بأي شيء في الحفاظ على الائتلاف، فإن سموتريتش يشكل أهمية بالغة لنتنياهو على المستوى السياسي.
قبل عشرين عاما، أطلق نتنياهو إصلاحات اقتصادية غير مسبوقة؛ وكان ذات يوم يفتخر بأنه رجل الاقتصاد وليس رجل الأمن.
واليوم، يأتي الاقتصاد في المرتبة الثانية بعد الحسابات السياسية والحربية. وعلى هذا، فبرغم العجز المالي المتزايد، وعملية إعداد الميزانية لعام 2025، وسلسلة من تخفيضات التصنيف الائتماني، وتسارع التضخم في وقت حيث ينخفض التضخم في بقية العالم، فإن وظيفة وزير المالية سموتريتش تظل آمنة.
بالنسبة للاقتصاد العالمي، لم تسجل الحرب أي أثر يذكر. خارج منطقة الحرب في إسرائيل والضفة الغربية وغزة ولبنان، لم تشعر سوى مصر (بسبب فقدان إيرادات قناة السويس نتيجة هجمات الحوثيين على التجارة البحرية) والأردن (التي تأثر التجارة الخارجية بها أيضًا بهجمات الحوثيين) بتأثيره.
لكن الحرب مع إيران قد تؤدي إلى تغير الصورة كليا، فإن ردت إسرائيل على وابل الصواريخ الإيرانية الأسبوع الماضي بضرب منشآت النفط الإيرانية، فقد يخسر العالم أربعة ملايين برميل من النفط يوميا، أو نحو 4 بالمئة من إجمالي النفط العالمي.
إن مجرد ضرب الصادرات الإيرانية ــ وهو أمر ليس بالصعب من الناحية العسكرية لأن 90 بالمئة من الصادرات الإيرانية تمر عبر محطة ضخمة واحدة في جزيرة خرج ــ من شأنه أن يتردد صداه في مختلف أنحاء العالم لأن نحو نصف الإنتاج الإيراني يتم تصديره.
وتقدر شركة الاستشارات ClearView Energy Partners أن الهجوم على إيران قد يرفع أسعار النفط بنحو 13 دولارا للبرميل. وهذا أعلى من 78 دولارا للبرميل لخام برنت القياسي بعد أن بدأت أسعار النفط في الارتفاع الأسبوع الماضي بعد تعهد نتنياهو بالانتقام.
وقد يكون الأمر أسوأ إذا ردت طهران وأدى ذلك التصعيد إلى إغلاق مضيق هرمز. حيث إن خمس النفط العالمي يمر عبر ذلك المضيق المائي بين إيران والإمارات العربية المتحدة.
وفي وقت سابق، قال أعضاء منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك إنهم ينتجون نحو خمسة ملايين برميل يومياً أقل مما يستطيعون إنتاجه، وبالتالي فإنهم قادرون على زيادة الإنتاج لاستبدال النفط الإيراني.
ولكن هذا الإجراء سوف يستغرق بعض الوقت: تقول شركة كلير فيو إن انقطاعاً لمدة سبعة أيام في جميع صادرات الخليج من شأنه أن يرفع أسعار النفط بما يصل إلى 28 دولاراً للبرميل.
وعلاوة على ذلك، فإن القدرة الإضافية لمنظمة أوبك تتركز في الخليج بشكل رئيسي، لذا فإذا اشتعلت الحرب في المنطقة، فقد لا يتمكنون من زيادة الإنتاج لبعض الوقت.
وبحسب الصحيفة الإسرائيلة، فإن الهجوم الإسرائيلي على إيران من شأنه أن ينعكس بسهولة على الاقتصاد الإسرائيلي من خلال رفع تكلفة النفط المستورد وفي نهاية المطاف رفع تكاليف جميع المنتجات بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة.
من الصعب أن نصدق أن إيران قد تختار توجيه ضربة بهذه القوة إلى الاقتصاد العالمي بهذه الطريقة. ولكن طهران ربما تراهن على أن الولايات المتحدة سوف تتعامل بجدية مع مسألة إرغام إسرائيل على إنهاء الصراع. وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإن الحرب سوف تنتهي أخيرا، ولكن بثمن باهظ بشكل خاص بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي.