تزداد شعبية جيل Z والألفية الصينيين في توثيق حياتهم اليومية “الريفية التقاعدية” على وسائل التواصل الاجتماعي بعد إعلانهم عن تسريحهم من العمل أو استقالتهم أو عدم وجود وظائف، حيث ينشر هؤلاء “المتقاعدون”، الذين غالباً ما يذكرون أنهم من مواليد التسعينيات أو الألفين في ملفاتهم الشخصية، رحلاتهم عبر الإنترنت أثناء خوضهم فترات راحة طويلة في العمل أو بقائهم عاطلين عن العمل، وفقاً لتقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي”، واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
في العام الماضي، أقامت “وينزي دادا” البالغة من العمر 22 عاماً، والتي تلقب نفسها بالمتقاعدة، في كوخ من الخيزران على حافة جرف في مقاطعة قويتشو الجبلية في الصين. أخبرت وينزي، التي عملت سابقاً في مجموعة متنوعة من الوظائف في إصلاح السيارات والإنشاءات والتصنيع، وسائل الإعلام المحلية أنها سئمت من التعامل مع الآلات كل يوم واستقالت للعودة إلى مسقط رأسها. حاولت العثور على وظيفة هناك، لكنها لم تكن راضية أبداً عن الخيارات المتاحة.
وكتبت في ملفها الشخصي على “Douyin” وفقاً لما نقلته الشبكة الأميركية “مع مرور الوقت، أبدأ في التفكير في معنى الحياة. الحياة ليست مجرد ازدهار المدينة. إن هدوء الريف هو أيضاً نوع من الجمال”. وDouyin هو تطبيق مخصص للسوق الصيني.
المنافسة في سوق العمل
لقد أصبح البحث عن عمل صعباً بشكل خاص بالنسبة للشباب مع تعثر الاقتصاد الصيني، كما قال تشونج تشي نين، أستاذ جامعي في جامعة هونغ كونغ بوليتكنيك وأضاف: “دخل سوق العمل هذا العام عدد قياسي يبلغ 11.8 مليون خريج جامعي، مما زاد من المنافسة التي أدت إلى تقليل قيمة الشهادات الجامعية، وبالنسبة للأفراد ذوي المؤهلات والخبرة الأقل، فإن هذا قد خفض فرصهم في التوظيف بشكل أكبر”.
وذكر التقرير أن معدل البطالة بين الشباب في الصين بلغ في أغسطس الماضي مستوى قياسياً جديداً وصل إلى 18.8 بالمئة، مرتفعاً من 17.1 بالمئة في يوليو، منوهاً بأن هذه البيانات جاءت وسط سلسلة من الإشارات الاقتصادية الصينية المحبطة حيث يستمر ثاني أكبر اقتصاد في العالم في الكفاح مع ضعف الطلب المحلي وتراجع قطاع الإسكان.
وأوضح الأستاذ الجامعي تشونج: “إذا اجمعت هذه العوامل معاً، فلن يكون من المستغرب أن يختار الشباب التراجع أو التقاعد إلى الريف حيث أصبح من الصعب جداً العثور على وظيفة، خاصة الوظائف الجيدة في المدن من الدرجة الأولى”.
بدوره، قال دان وانغ، كبير الاقتصاديين في بنك هانغ سنغ الصيني، إنه على مدى السنوات الثلاث الماضية، تقلصت قطاعات الخدمات عالية القيمة المضافة التي كانت تستوعب العديد من الخريجين الجدد بشكل كبير، لا سيما العقارات والتمويل. في حين أن هناك وظائف منخفضة الأجر متاحة في مدن مثل التوصيل، فإن الشباب المتعلم لا يريدونها ويفضلون الجلوس على الهامش، كما قال وانغ.
هناك أيضاً وظائف متاحة في قطاع التصنيع، لكن كييو جين، الأستاذ المساعد في الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد، قالت إن الشباب لا يرغبون في هذه الأدوار أيضاً، إنهم يفضلون الجلوس في المنزل مع والديهم والانتظار لوظيفة أفضل”.
عوامل توجه الشباب إلى الريف
في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” ذكر الخبير الاقتصادي، الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي أن هناك العديد من العوامل التي تؤثر على قرار الشباب بالانتقال إلى الريف منها:
- تكاليف المعيشة، إذ أن تكلفة الحياة في الريف أقل بكثير مقارنة بالمدن الكبرى مثل شنغهاي.
- ضغوط العمل والحياة، تدفع للبحث عن نمط حياة أكثر هدوءاً بعيداً عن ضغوط العمل في المدينة.
- البطالة، ارتفاع معدلات البطالة يجعل من الصعب العثور على وظائف مناسبة في المدن.
- التكنولوجيا، من خلال القدرة على العمل عن بعد أو كسب المال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
- التوجهات الثقافية، وتتمثل في الرغبة بتجربة حياة مختلفة واستكشاف الجمال الطبيعي للريف.
وأشار إلى أن هذه العوامل مجتمعة تساعد في زيادة جاذبية الحياة الريفية للشباب الصينيين في الوقت الحالي، كما أوضح أن الشباب الصيني يجد في الريف ملاذاً آمناً وبيئة أقل تكلفة، حيث يمكنهم إعادة تقييم حياتهم ومساراتهم المهنية بعيداً عن ضغوط المدينة.
ويرى الدكتور المصبح أن “تقاعد” الشباب الصيني في العشرينيات يعكس مزيجاً من المأساة الاقتصادية والخيار الشخصي. فمن ناحية، يعاني الاقتصاد الصيني من تباطؤ، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى مستويات قياسية، مما دفع الكثير منهم إلى البحث عن بدائل خارج سوق العمل التقليدي. من ناحية أخرى، يختار بعض الشباب “التقاعد” كأسلوب حياة، رافضين ضغوط العمل التقليدي وباحثين عن حياة أكثر بساطة وهدوءً في الريف، حتى لو كان ذلك يعني دخلاً أقل. فهي ليست بالضرورة استسلاماً للبطالة بقدر ما هي رغبة في حياة مختلفة بعيدة عن ضغوط العمل التقليدي، بحسب تعبيره.
وأضاف أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي: “التقاعد في الريف ليس الحل الوحيد للشباب الصيني العاطل عن العمل، ولكنه خيار متاح للبعض. هناك شباب يحاولون إيجاد فرص عمل من خلال التجارة الإلكترونية أو العمل كمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن الحكومة الصينية تعمل على معالجة مشكلة البطالة من خلال برامج دعم وتشجيع ريادة الأعمال، يبقى “التقاعد” في الريف حلاً مؤقتاً للبعض في ظل الظروف الاقتصادية الحالية”.
خيبة أمل
من جهته، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “صار الشباب الصيني يتجه نحو الريف كرد فعل على الحياة الصعبة والضغوط المتزايدة في الحياة الحضرية، وقد تكون الصين بداية لهذه الظاهرة”.
فالمدن الكبرى في الصين مثل بكين وشنغهاي وغيرهما، معروفة بارتفاع تكلفة المعيشة والتنافس الشديد على الوظائف وساعات العمل الطويلة في ظل ثقافة العمل المعروفة في الصين بـ”996″ (أي العمل من 9 صباحًا إلى 9 مساءً، ستة أيام في الأسبوع). هذا يجعل العديد من الشباب يشعر بالإرهاق وخيبة الأمل بسبب هذه الحياة الحضرية المرهقة، فيلجؤون إلى حياة أبسط وأقل ضغوطاً مالياً ونفسياً، بحسب تعبيره.
يقدم الريف نمط حياة أقل تكلفةً وأكثر هدوءاً وقرباً إلى الطبيعة، بالإضافة إلى فرصة للعمل في الزراعة أو ممارسة الأنشطة الإبداعية التي تلبي الرغبات الشخصية أكثر من تحقيق المكاسب الاقتصادية، وفقاً للقمزي الذي أوضح أن هذا الاتجاه زاد بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين وانخفاض فرص العمل في المدن، خاصة بالنسبة للخريجين الجامعيين.
مأساة اقتصادية
وأضاف الخبير الاقتصادي القمزي: “وعود النجاح من خلال العمل الجاد والمثابرة في اقتصاد شديد التنافسية لم تعد ممكنة ولا عقلانية، فضلاً عن أن سوق الإسكان أصبح بعيد المنال بالنسبة للكثيرين، وفرص العمل، خاصة للخريجين الجدد، محدودة جداً في بلد مثل الصين ذو الكثافة السكانية المرتفعة”.
ويصف هذه الظاهرة بـ “مأساة اقتصادية” تعكس مشاكل الحكومة الصينية مثل ندرة الوظائف إذ أصبح رفض نمط الحياة الاستهلاكية والمرهقة، والبحث عن حياة أفضل ذات معنى أكثر إقناعاً للشباب، ومع ذلك أشار إلى أن هذا الاتجاه يتحدى القيم الصينية التي تركز على أن العمل الجاد هو وحده طريق النجاح.
وذكر أن الانتقال إلى الريف ليس الخيار المفضل للشباب العاطلين عن العمل فقط، بل يمثل ذلك بديلاً متزايداً لأولئك الذين يعملون، ولكنهم متعبون ويشعرون بالإحباط من نوع الحياة الحضرية القاسية، لأن الريف يمثل فرصة للهروب من ضغوط الحياة في المدن وإعادة اكتشاف أنفسهم من خلال الزراعة أو الأعمال الصغيرة أو الأنشطة الأخرى،
بينما نشهد هذه الظاهرة في الصين حالياً فقد نرها في المستقبل القريب في اقتصادات أخرى مع زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والروبوتات. سيصبح البحث عن أنماط حياة بديلة استجابة للواقع الاقتصادي الصعب والمتغير في العالم شيئاً متوقعاً طبقاً لما قاله القمزي.